 |
هل أصل المفاهيم الرياضية العقل ام الحواس ؟ |
• طرح المشكلة :
في سعي الإنسان الدؤوب لفهم الكون وقوانينه، برزت الرياضيات كلغة كونية، وأداة جوهرية لا غنى عنها في مختلف أصناف العلوم، من الفيزياء التي تصف حركة المجرات، إلى الاقتصاد الذي ينمذج سلوك الأسواق ، إنها بنية مجردة من الأرقام والأشكال والعلاقات، تسمح لنا ببناء الجسور الشاهقة، وتصميم الدوائر الإلكترونية الدقيقة، وحتى التنبؤ بمسارات الأعاصير ، لكن هذا الصرح الشامخ من اليقين والدقة، والذي يبدو وكأنه نسيج الواقع ذاته، يخفي في أساسه صدعاً فلسفياً عميقاً حول منشئه الأول ، و هذا الصدع أدى إلى ظهور تيارين فكريين متعارضين بشكل جذري ، الموقف الأول ، الذي يمثله التيار العقلي أو المثالي، يرى أن الرياضيات معرفة قبلية ، نابعة من المبادئ الأولية للعقل وحده، وأن العالم الخارجي ليس سوى تطبيق أو محاكاة لهذه الحقائق العقلية الأزلية ، و في المقابل، يقف الموقف الثاني ، الذي يمثله التيار التجريبي أو الحسي، ليؤكد أن العقل عند الولادة صفحة بيضاء، وأن كل معرفتنا الرياضية، مهما بلغت من تجريد، ليست في النهاية سوى صدى وتجريد لخبراتنا الحسية مع العالم المادي ، و من رحم هذا الصراع الفكري، يتبلور التساؤل الفلسفي المحوري: هل أصل المفاهيم الرياضية يعود إلى العقل أم إلى التجربة الحسية؟ ، أو من أين استقى الإنسان هذه المفاهيم الرياضية المطلقة؟ هل هي كامنة في بنية العقل البشري، تولد معه كأفكار فطرية سابقة على أي تجربة؟ أم أنها مجرد تعميمات وتجريدات استخلصناها من ملاحظاتنا المتكررة للعالم المادي المحسوس؟.
• محاولة حل المشكلة :
• الموقف الأول: الرياضيات بناء عقلي خالص.
يرى أنصار هذا الموقف، وعلى رأسهم الفلاسفة العقليون والمثاليون، أن المفاهيم الرياضية هي مفاهيم فطرية، قبلية، ومستقلة تماماً عن العالم الحسي ، إنها حقائق ضرورية ومطلقة يكتشفها العقل من خلال التأمل المنطقي الخالص، وليست مجرد اختراع أو استقراء من التجربة ، فخصائص الأعداد والأشكال الهندسية، في نظرهم، لا تتغير بتغير الظروف المادية، وهذا يدل على طبيعتها المتعالية والمجردة ، ويعد الفيلسوف اليوناني أفلاطون من أبرز المؤسسين لهذا التصور ، يرى أفلاطون أن العالم الذي ندركه بحواسنا ليس سوى عالم متغير، زائل، ومليء بالظلال والنسخ المشوهة ، أما الحقيقة المطلقة، بما في ذلك الحقائق الرياضية، فتوجد في عالم المُثُل ، وهو عالم عقلي ثابت وأزلي ، و الحجة التي تبناها هي أن المفاهيم الرياضية ، مثل الدائرة الكاملة أو الخط المستقيم الذي لا عرض له، لا وجود لها في العالم المادي ، فلا يمكننا أن نرسم دائرة مثالية أو نجد خطاً مستقيماً بالمعنى الهندسي الدقيق في الطبيعة ، و هذه المفاهيم، بكمالها ودقتها المطلقة، لا يمكن أن تكون مستمدة من عالم ناقص ومتغير ، بل هي موجودة كمُثُل أزلية يتذكرها العقل ولا يكتسبها من الحواس ، حيث يقول: "إن النفس تتذكر معرفتها السابقة بعالم المثل عند رؤيتها لأشباهها في العالم الحسي" ، فالنفس البشرية حسبه قبل أن تحل في الجسد، كانت تسكن في عالم المثل وشاهدت الحقائق الكاملة ، وعندما تتفاعل مع العالم المادي، فإن الأشكال الناقصة التي تراها (كدائرة مرسومة على الرمال) لا تعلمها مفهوم الدائرة، بل تثير فيها ذكرى مثال الدائرة الكامل الذي عرفته من قبل ، على سبيل المثال، عندما يدرك المهندس مفهوم "المثلث" بخصائصه الثابتة (مجموع زواياه 180 درجة)، فإنه لا يستمد هذه الحقيقة من قياس آلاف المثلثات المادية، بل من خلال استيعابه العقلي لمثال المثلث الذي لا يتأثر بأي تشويه مادي ، كما يعد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت ، أب الفلسفة الحديثة، من أشد المدافعين عن فطرية المفاهيم الرياضية ، لقد بنى ديكارت فلسفته على الشك المنهجي، لكنه وجد في الرياضيات ملاذاً لليقين الذي لا يتزعزع ، و الحجة التي تبناها هي أن الأفكار الرياضية تتميز بالوضوح والتميز ، وهي سمات الأفكار الفطرية التي غرسها الله في العقل البشري ، ففكرة "اللانهاية" في الرياضيات، أو فكرة "الكمال"، لا يمكن أن تكون مستمدة من التجربة الحسية ، لأن كل ما في التجربة محدود وناقص ، و هذه الأفكار، حسب ديكارت، لا يمكن أن تأتي إلا من كائن لانهائي وكامل ، وهو الله، الذي أودعها فينا كبصمته الخاصة ، يقول: "إن كل ما أتصوره بوضوح وتمييز هو حقيقي" ، وقد عنى بذلك أن معيار الحقيقة هو البداهة العقلية ، فالحقائق الرياضية، مثل 2+2=4، تفرض نفسها على العقل بقوة لا يمكن مقاومتها، بغض النظر عن أي معطى حسي ، على سبيل المثال، فكرة "الامتداد" كجوهر للمادة هي فكرة رياضية هندسية فطرية في العقل، وهي التي تسمح لنا بفهم العالم المادي فهماً علمياً، وليس العكس ، فالعقل يفرض قوانينه الرياضية على التجربة، وليست التجربة من تملي على العقل مفاهيمه ، ويعد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط من أبرز من قدموا تحليلاً عميقاً للطبيعة القبلية للرياضيات ، لقد حاول كانط التوفيق بين العقلانية والتجريبية، لكنه في مسألة الرياضيات انحاز بشكل واضح إلى العقل ، و الحجة التي تبناها هي أن القضايا الرياضية هي أحكام تركيبية قبلية ، قبلية لأنها ضرورية وعامة ولا تعتمد على التجربة لإثبات صحتها، و تركيبية لأنها تضيف معرفة جديدة لم تكن موجودة في المفهوم الأصلي (فمفهوم "12" ليس متضمناً تحليلياً في مفهوم "7+5") ، فكيف يمكننا إصدار أحكام تضيف معرفة جديدة دون اللجوء للتجربة؟ ، يجيب كانط بأن الزمان والمكان ليسا شيئين في العالم الخارجي، بل هما صورتان قبليتان للحساسية ، أي أنهما الإطاران العقليان اللذان ننظم من خلالهما كل خبراتنا الحسية ، فالحساب ينبع من صورتنا القبلية للزمان كتتابع للآحاد ، والهندسة تنبع من صورتنا القبلية للمكان ، حيث يقول: "إن الهندسة علم يحدد خصائص المكان تركيبياً وقبلياً" ، وقد وضّح في ذلك أننا لا نستخلص قوانين الهندسة من ملاحظة المكان الخارجي، بل إننا لا نستطيع إدراك أي مكان إلا من خلال القوانين الهندسية الكامنة في بنية عقولنا ، على سبيل المثال، حقيقة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ليست نتيجة قياسات تجريبية لا حصر لها، بل هي حقيقة ضرورية نابعة من بنيتنا العقلية لإدراك المكان ، فالعقل هو الذي يشرّع قوانينه على الطبيعة ، كما يعد الفيلسوف والرياضي غوتفريد فيلهلم لايبنتز من المناصرين البارزين للأصل العقلي للمفاهيم الرياضية ، لقد انتقد لايبنتز بشدة فكرة أن العقل صفحة بيضاء ، و الحجة التي تبناها هي أن العقل ليس مجرد مستودع سلبي للأفكار، بل يحتوي على ميول واستعدادات وعادات أو فاعليات طبيعية توجهه نحو استنتاج الحقائق الضرورية ، و هذه الحقائق، التي يسميها حقائق العقل ، هي أزلية ومطلقة، كنقيض لحقائق الواقع التي نكتسبها من التجربة ، و المبادئ الرياضية والمنطقية هي من النوع الأول، ولا يمكن للتجربة أن تثبتها أو تنفيها، لأن التجربة تقدم أمثلة فردية فقط، بينما الحقائق الرياضية تتمتع بالكلية والضرورة ، يقول:"العقل يشتمل على مبادئ المعارف التي لا تأتينا عن طريق الحواس" ، و يعني بذلك أن العقل ليس صفحة بيضاء تماماً، بل هو أشبه بكتلة من الرخام تحتوي على عروق تحدد مسبقاً شكل التمثال الذي سينحت منها ، فالتجربة الحسية قد تكون الشرارة التي تدفع العقل للتفكير، لكنها لا تخلق المبادئ التي يفكر بها ، فعلى سبيل المثال، مبدأ عدم التناقض الذي تقوم عليه الرياضيات والمنطق، لا يمكن تعلمه من التجربة، بل هو شرط قبلي لكل تفكير ممكن ، فنحن نعرف بشكل بديهي أن الدائرة لا يمكن أن تكون مربعة في نفس الوقت، وهذه المعرفة لا تحتاج إلى فحص كل الدوائر في العالم.
• نقد الموقف الأول :
على الرغم من قوة الحجج التي قدمها أنصار الموقف العقلي وعمقها الفلسفي ، إلا أنها لا تخلو من نقاط ضعف جوهرية ، إن القول بفطرية المفاهيم الرياضية ووجودها في عالم مثالي أو كأفكار مغروسة في العقل، يجعل من هذه المفاهيم كيانات غامضة وميتافيزيقية ، ويفشل في تفسير كيف يمكن لعقل بشري محدود أن يتصل بهذه الحقائق الأزلية المطلقة ، كما أن هذا الموقف يتجاهل بشكل كبير الدور الذي يلعبه العالم المادي في نشأة وتطور الفكر الرياضي عبر التاريخ ، فالرياضيات البدائية نشأت لحل مشكلات عملية كعدّ المواشي وقياس الأراضي الزراعية، وهذا يوحي بارتباطها الوثيق بالواقع الحسي ، علاوة على ذلك، إذا كانت الرياضيات فطرية وموجودة بنفس الوضوح لدى جميع البشر، فكيف نفسر الصعوبة الكبيرة التي يواجهها الكثيرون في تعلمها واستيعاب مفاهيمها المجردة؟ ، كما أن فكرة التذكر الأفلاطونية أو الوضوح والتميز الديكارتي تبدو كحلول أنيقة أكثر منها تفسيراً واقعياً للعملية المعرفية ، وأخيراً، إن ظهور هندسات لاإقليدية في العصر الحديث، والتي تتناقض مع بداهات الهندسة التقليدية التي اعتبرها كانط قبلية وضرورية، يزعزع فكرة أن هناك بنية رياضية واحدة وثابتة يفرضها العقل على الواقع، ويفتح الباب أمام إمكانية أن تكون الرياضيات مجرد أنظمة رمزية من صنع الإنسان، حتى وإن كانت مستوحاة في الأصل من التجربة.
• الموقف الثاني : الرياضيات تجريد من الواقع الحسي
على النقيض تماماً من الطرح العقلي، يقف أنصار الموقف التجريبي مؤكدين أن العقل البشري عند الولادة يكون أشبه بصفحة بيضاء ، وأن كل معارفنا ، بما فيها المفاهيم الرياضية الأكثر تجريداً، ليست سوى نتاج لتجاربنا الحسية مع العالم المادي ، فمفاهيم مثل العدد، والشكل، والكمية، لم تولد معنا، بل هي تعميمات وتجريدات استخلصناها من خلال ملاحظة وتكرار التعامل مع الأشياء المحسوسة ، فالرياضيات، في جوهرها، هي علم استقرائي بدأ من الواقع وانتهى إلى قوانين مجردة ، ويعد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك من أبرز رواد هذا التيار ، إذ يرفض لوك رفضاً قاطعاً فكرة وجود أي مبادئ أو أفكار فطرية في العقل ، و الحجة التي تبناها هي أن كل أفكارنا تأتي من مصدرين فقط ، الإحساس ، والتأمل ، الإحساس يمدنا بالمعطيات الأولية عن العالم الخارجي (الألوان، الأشكال، الأصوات)، والتأمل هو قدرة العقل على معالجة هذه المعطيات (التفكير، المقارنة، التجريد). فالأفكار الرياضية، كفكرة "الوحدة" أو "العدد"، ليست فطرية، بل هي مكتسبة ، فنحن نكتسب فكرة الوحدة من ملاحظة الأشياء المفردة، ثم من خلال عملية التكرار والجمع، نُكوّن فكرة العدد ، يقول: "لو سألنا أي إنسان متى تكوّن لديه لأول مرة تصور عن الأعداد، لأجابك: عندما بدأ يتعلم العد" ، و هذا القول يؤكد على أن المفاهيم الرياضية ليست كامنة في العقل تنتظر من يكتشفها، بل هي مهارات ومعارف تُبنى تدريجياً من خلال الممارسة والتعلم المرتبطين بالعالم المادي ، على سبيل المثال، الطفل لا يولد وهو يعرف معنى الرقم "ثلاثة"، بل يتعلمه من خلال رؤية ثلاث تفاحات، أو ثلاث لعب، أو ثلاث أصابع، ثم يقوم العقل بعملية "تجريد" لفكرة "الثلاثية" من هذه السياقات المادية المختلفة لتصبح مفهوماً مستقلاً ، و يعد الفيلسوف جون ستيوارت مل من أكثر المدافعين تطرفاً عن الأصل التجريبي للرياضيات ، يذهب مل إلى أبعد من لوك، معتبراً أن الرياضيات ليست فقط مستمدة من التجربة، بل هي علم تجريبي في جوهره، وأن يقينها ليس مطلقاً بل هو مجرد يقين ناتج عن تكرار هائل للخبرات المتطابقة ، و الحجة التي تبناها هي أن حتى البديهيات الهندسية والمبادئ الحسابية هي تعميمات من التجربة ، فحقيقة أن الخطين المستقيمين لا يمكن أن يحيطا بمساحة ، ليست حقيقة عقلية قبلية، بل هي نتيجة ملاحظتنا التي لم تخطئ قط لآلاف الخطوط المستقيمة في الواقع ، وحتى القضية "2+2=4" ليست حقيقة تحليلية، بل هي قضية تركيبية مستمدة من التجربة، فنحن تعلمنا صحتها من خلال جمع شيئين ماديين إلى شيئين آخرين ورؤية النتيجة دائماً أربعة أشياء ، يقول: "إن كل استدلال هو في النهاية استقراء، وكل استقراء يرتكز على التجربة" ، وقد عنى بذلك أن حتى اليقين الرياضي ليس سوى عادة ذهنية قوية جداً تكونت بفعل التكرار ، على سبيل المثال، نحن نثق في أن الشمس ستشرق غداً ليس بسبب قانون عقلي، بل لأنها أشرقت كل يوم في الماضي ، وبالمثل، ثقتنا في الرياضيات تأتي من كونها لم تخذلنا أبداً في تطبيقاتها على العالم المادي ، ويعد عالم النفس السويسري جان بياجيه ، من أبرز من قدموا دعماً علمياً للمنظور التنموي الذي يربط نشأة المفاهيم الرياضية بالنشاط الحسي الحركي ، من خلال ملاحظاته الدقيقة لنمو الأطفال، توصل بياجيه إلى أن المفاهيم المنطقية والرياضية لا تكون فطرية ولا مكتسبة بشكل سلبي من البيئة، بل يبنيها الطفل بنفسه من خلال تفاعله النشط مع محيطه ، و الحجة التي تبناها هي أن الطفل يمر بمراحل نمو معرفي، وأن فهمه للعدد والمكان والزمان يتطور تدريجياً ، فمفهوم انحفاظ العدد ، أي إدراك أن عدد الأشياء يبقى نفسه بغض النظر عن كيفية ترتيبها ، لا يظهر لدى الطفل إلا في مرحلة عمرية معينة بعد الكثير من التلاعب بالأشياء المادية ، يقول: "إن المعرفة ليست نسخة من الواقع، فلكي تعرف شيئاً ما، على الذات أن تفعل به، أي أن تحوله" ، و يوضح بذلك أن المفاهيم الرياضية ليست مجرد صور للأشياء، بل هي بنى عملياتية تنشأ من استبطان الأفعال ، على سبيل المثال، عملية الجمع الحسابية (+)، ليست سوى استبطان وتجريد للفعل المادي المتمثل في ضم مجموعتين من الأشياء معاً ، كما يمكن إيجاد جذور هذا الموقف لدى الفيلسوف اليوناني أرسطو ، تلميذ أفلاطون الذي خالفه في هذه النقطة الجوهرية ، وقد رفض أرسطو فكرة عالم المثل المنفصل، ورأى أن الصور والكليات (بما فيها المفاهيم الرياضية) لا توجد إلا داخل الأشياء الجزئية المحسوسة ، و الحجة التي تبناها هي أن العقل يستخلص الكليات من الجزئيات عن طريق عملية التجريد ، فالعقل يلاحظ المثلثات الموجودة في الحقول والأبنية، ثم يجردها من مادتها (خشب، حجر) ومن أعراضها (لونها، حجمها) ليصل إلى صورة المثلث أو ماهيته المجردة بخصائصها الهندسية ، فالرياضيات، بالنسبة لأرسطو، تدرس الكميات والأشكال ولكن بعد تجريدها من المادة والحركة ، يقول: "ليس هناك شيء في العقل ما لم يكن من قبل في الحواس" ، فالحواس هي البوابة الوحيدة للمعرفة، والعقل يأتي لاحقاً ليعالج وينظم ويجرد ما تقدمه الحواس ، على سبيل المثال، مفهوم "الدائرة" لا يأتي من عالم المثل، بل من ملاحظة قرص الشمس، والقمر، وحدقة العين، ثم تجريد الشكل الدائري المشترك بينها جميعاً.
• نقد الموقف الثاني :
على الرغم من أن الموقف التجريبي يقدم تفسيراً أكثر واقعية وبساطة لنشأة الرياضيات، ويربطها بتاريخها العملي، إلا أنه يواجه صعوبات جمة في تفسير طبيعة اليقين والضرورة والكلية التي تتمتع بها الحقائق الرياضية ، فإذا كانت الرياضيات مجرد تعميم من التجربة، فكيف يمكنها أن تكون مطلقة ويقينية؟ ، التجربة دائماً جزئية ومحتملة، ولا يمكنها أبداً أن تؤسس لقانون كلي وضروري ، فملاحظتنا لملايين الحالات التي يكون فيها 2+2=4 لا تبرر منطقياً أنها ستكون كذلك دائماً وفي كل الظروف الممكنة ، كما يعجز هذا الموقف عن تفسير وجود مفاهيم رياضية بحتة لا مقابل مادي أو حسي لها على الإطلاق، مثل الأعداد السالبة، أو الأعداد التخيلية (مثل الجذر التربيعي لـ 1- )، أو فضاءات هيلبرت ذات الأبعاد اللانهائية ، هذه المفاهيم هي إبداعات عقلية خالصة، نشأت من داخل النسق الرياضي نفسه لحل مشكلات نظرية، ولا يمكن القول إنها تجريد من أي واقع محسوس ، و إن اختزال الرياضيات إلى مجرد علم تجريبي، كما فعل جون ستيوارت مل، يفقدها أهم خصائصها وهي الدقة المطلقة واليقين الاستنباطي، ويجعلها عرضة للخطأ والتكذيب مثلها مثل الفيزياء أو البيولوجيا، وهذا ما يتعارض مع طبيعتها.
• التركيب :
إن التعارض الحاد بين الموقفين العقلي والتجريبي يبدو وكأنه حلقة مفرغة، فكل منهما يسلط الضوء على جانب من الحقيقة ويتجاهل جوانب أخرى ، فالعقليون على حق في تأكيدهم على الطابع القبلي والضروري واليقيني للرياضيات، وهو ما لا يمكن للتجربة وحدها أن تفسره ، والتجريبيون على حق في إصرارهم على أن الفكر الرياضي لا ينشأ من فراغ، وأن له جذوراً في تفاعل الإنسان مع العالم المادي ، لذا، فإن الحل لا يكمن في تبني أحد الموقفين ونبذ الآخر، بل في تجاوزهما نحو رؤية تركيبية تكاملية يمكن القول فيها إن العلاقة بين العقل والتجربة في بناء الصرح الرياضي هي علاقة جدلية ديناميكية ، فالتجربة الحسية هي نقطة الانطلاق ومصدر الإلهام الأولي، لكن العقل هو الذي يبني وينظم ويمنح هذه المعطيات الخام صورتها المنطقية الضرورية والمجردة ، فالعقل ليس صفحة بيضاء سلبية، بل هو مزود ببنى منطقية وقدرات فطرية على التحليل والتركيب والتجريد والاستدلال ، والتجربة ليست مجرد معطيات فوضوية، بل هي منظمة بما يكفي لتكون بمثابة المادة الخام التي يعمل عليها العقل ، فالطفل يبدأ بعدّ أصابعه (تجربة)، لكنه يصل في النهاية إلى مفهوم العدد المجرد الذي يتجاوز الأصابع وكل الأشياء المادية (بناء عقلي) ، والمهندس المصري القديم بدأ بقياس ضفاف النيل (تجربة)، لكن هذا أفضى في النهاية إلى الهندسة الإقليدية كنسق استنباطي صارم (بناء عقلي) ، إذن، فإن أصل الرياضيات ليس العقل وحده ولا التجربة وحدها، بل هو الفعل المنظم للعقل على معطيات التجربة ، التجربة تقدم المضمون، والعقل يقدم الصورة ، التجربة تثير السؤال، والعقل يبني الجواب في صورة نسق منطقي متماسك.
• حل المشكلة :
في نهاية هذا السفر الفلسفي بين أروقة العقل ودهاليز الواقع، نجد أن سؤال "هل أصل الرياضيات العقل أم التجربة" ، هو سؤال يضعنا أمام خيار ثنائي مضلل ، فالرياضيات، في حقيقتها الأسمى، ليست اكتشافاً سلبياً لحقائق كامنة في عالم مثالي، وليست مجرد انعكاس باهت للعالم المادي ، إنها بالأحرى إبداع إنساني منظم ، لغة كونية شيدها الإنسان عبر تفاعل خلاق ومستمر بين قدراته العقلية الفذة وتجاربه الحسية الثرية ، إنها تمثل انتصار العقل البشري في قدرته على تجاوز حدود التجربة المباشرة، ليخلق عوالم من التجريد واليقين، ثم يعود بهذه العوالم ليضيء بها دروب الواقع ويفك ألغاز الكون ، فليست الرياضيات مجرد أداة لفهم العالم، بل هي شهادة على قدرة الإنسان على خلق نظام وجمال ومعنى، من رحم العلاقة الجدلية الأزلية بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي.