• مقال العلاقة بين الإحساس والادراك :
_ هل العلاقة بين الإحساس و الادراك اتصالية أم انفصالية؟
_ ما طبيعة العلاقة بين الإحساس و الادراك ؟
_ هل الاحساس مستقل عن الادراك ؟
![]() |
العلاقة بين الاحساس و الادراك |
• طرح المشكلة :
لطالما كانت العلاقة بين الإحساس و الإدراك من أبرز الإشكاليات الفلسفية التي شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين على مر العصور، فالإحساس هو تلك التجربة الحسية الأولية التي نختبرها من خلال الحواس الخمس ، بينما الإدراك هو العملية التي من خلالها نرتب هذه الأحاسيس ونعطيها معنى ، وقد انقسم الفلاسفة إلى موقفين متعارضين، الموقف الأول يرى أن العلاقة بين الإحساس والإدراك علاقة انفصالية، وأن الإحساس هو مجرد استقبال خام للمعلومات الحسية دون أي تدخل عقلي، بينما يرى الموقف الثاني أن العلاقة بين الإحساس والإدراك علاقة اتصالية، وأن الإحساس والإدراك هما عمليتان مترابطتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، وبين هذا الصراع الفكري العميق، ظهر سؤال جوهري ، هل العلاقة بين الإحساس والإدراك علاقة انفصالية، بحيث يكون الإحساس مجرد استقبال خام للمعلومات الحسية، بينما يكون الإدراك عملية عقلية منفصلة تماماً عن الإحساس؟ أم أن العلاقة بينهما علاقة اتصالية بحيث لا يمكن فصل الإحساس عن الإدراك، بل هما عمليتان متداخلتان تشكلان معاً تجربتنا الواعية للعالم ؟.
• محاولة حل المشكلة :
• الموقف الأول :
يرى أنصار هذا الموقف أن العلاقة بين الإحساس والإدراك علاقة انفصالية، بمعنى أن الإحساس هو عملية مستقلة تماماً عن الإدراك، فالإحساس هو تلك التجربة الحسية الأولية التي نختبرها من خلال الحواس الخمس، مثل رؤية الألوان أو سماع الأصوات أو الشعور بالحرارة أو البرودة، وهذه الأحاسيس تكون خامّة وغير منظمة، ولا تحمل أي معنى أو تفسير، أما الإدراك فهو العملية العقلية التي تأتي بعد الإحساس، حيث يقوم العقل بتنظيم هذه الأحاسيس وإعطائها معنى، وبذلك يكون الإدراك عملية منفصلة عن الإحساس، حيث يعتمد على تفسير العقل للمعلومات الحسية التي يستقبلها ، و يستند هذا الموقف إلى الفيلسوف جون لوك ، الذي يعتبر من أبرز الفلاسفة الذين دافعوا عن فكرة الانفصال بين الإحساس والإدراك، ففي كتابه (مقالة في الفهم البشري)، يرى لوك أن العقل يولد صفحة بيضاء، وأن جميع معارفنا تأتي من التجربة الحسية، لكنه يميز بين الإحساس كعملية استقبال خام للمعلومات الحسية، وبين الإدراك كعملية عقلية تقوم بتنظيم هذه المعلومات وإعطائها معنى، يقول : "العقل لا يملك أي أفكار فطرية، بل كل ما نعرفه يأتي من التجربة الحسية"، ويضرب لوك مثالاً على ذلك بالشخص الذي يرى تفاحة لأول مرة، حيث يكون الإحساس هو استقبال الألوان والأشكال التي تشكل صورة التفاحة، بينما يكون الإدراك هو العملية التي يقوم بها العقل لتفسير هذه الصورة وإعطائها معنى، مثل التعرف على التفاحة كفاكهة صالحة للأكل ، و يدعم هذا الموقف أيضاً الفيلسوف ديفيد هيوم ، الذي يرى أن الإحساس هو مجرد استقبال خام للانطباعات الحسية، بينما الإدراك هو عملية عقلية تأتي بعد الإحساس، حيث يقوم العقل بتنظيم هذه الانطباعات وربطها ببعضها البعض، ففي كتابه (مبحث في الفهم البشري)، يشير هيوم إلى أن العقل لا يتدخل في عملية الإحساس، بل يقوم فقط بتنظيم الانطباعات الحسية بعد استقبالها، يقول : "كل معرفتنا تبدأ من الانطباعات الحسية، ولكن العقل هو الذي ينظم هذه الانطباعات"، ويضرب هيوم مثالاً على ذلك بالشخص الذي يرى كرة حمراء، حيث يكون الإحساس هو استقبال اللون الأحمر والشكل الكروي، بينما يكون الإدراك هو العملية التي يقوم بها العقل لربط هذه الانطباعات ببعضها البعض والتعرف على الكرة كجسم مادي ، ومن الأمثلة الأخرى التي تدعم هذا الموقف، نجد في علم النفس أن بعض الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات في الإدراك، مثل مرضى العمه البصري (Visual Agnosia)، يكونون قادرين على الإحساس بالأشياء من حولهم، مثل رؤية الألوان والأشكال، لكنهم غير قادرين على إدراك هذه الأشياء أو التعرف عليها، وهذا يشير إلى أن الإحساس والإدراك هما عمليتان منفصلتان، حيث يمكن أن يحدث الإحساس دون أن يحدث الإدراك.
• النقد :
على الرغم من أن الموقف الأول يقدم حججاً قوية، إلا أنه لا يخلو من النقد، أولاً، إذا كانت العلاقة بين الإحساس والإدراك علاقة انفصالية تماماً، فكيف نفسر قدرتنا على التعرف على الأشياء بشكل فوري ودون الحاجة إلى عملية عقلية منفصلة؟ ، فعلى سبيل المثال، عندما نرى تفاحة، لا نحتاج إلى عملية عقلية منفصلة للتعرف عليها، بل يحدث التعرف بشكل فوري ومباشر، وهذا يشير إلى أن الإحساس والإدراك قد يكونان عمليتين مترابطتين وليستا منفصلتين ، و ثانياً، إذا كانت العلاقة بين الإحساس والإدراك علاقة انفصالية، فكيف نفسر التجارب الحسية التي تتأثر بالعوامل العقلية والنفسية؟ ، فعلى سبيل المثال، قد يختلف إدراكنا للألوان أو الأصوات بناءً على حالتنا النفسية أو توقعاتنا العقلية، وهذا يشير إلى أن الإدراك قد يؤثر على الإحساس، وأن العلاقة بينهما ليست انفصالية تماماً ، وثالثاً، يمكن القول إن الإحساس ليس مجرد استقبال خام للمعلومات الحسية، بل هو عملية معقدة تتأثر بالعوامل العقلية والنفسية، كما أشار الفيلسوف إيمانويل كانط في كتابه (نقد العقل الخالص) حيث يرى كانط أن العقل يلعب دوراً أساسياً في تشكيل تجربتنا الحسية، وأن الإحساس لا يمكن أن يكون عملية خامّة ومستقلة عن الإدراك، بل هو عملية تتأثر بالعقل والتجربة السابقة، يقول كانط: "العقل لا يستقبل العالم كما هو، بل يشكله وفقاً لمقولاته الخاصة"، وهذا يعني أن الإحساس يتداخل مع الإدراك في تشكيل تجربتنا للعالم .
• الموقف الثاني :
على النقيض من الموقف الأول، يرى أنصار هذا الموقف أن العلاقة بين الإحساس والإدراك علاقة اتصالية، بمعنى أن الإحساس والإدراك هما عمليتان مترابطتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، فالإحساس ليس مجرد استقبال خام للمعلومات الحسية، بل هو عملية معقدة تتداخل فيها العوامل العقلية والنفسية، والإدراك ليس عملية منفصلة تأتي بعد الإحساس، بل هو جزء من عملية الإحساس نفسها، حيث يقوم العقل بتنظيم المعلومات الحسية وإعطائها معنى بشكل فوري ومباشر ، و يدعم هذا الموقف الفيلسوف موريس ميرلو-بونتي ، الذي يعتبر من أبرز الفلاسفة الذين دافعوا عن فكرة الترابط بين الإحساس والإدراك، ففي كتابه ( فينومينولوجيا الإدراك)، يرى ميرلو-بونتي أن الإحساس والإدراك هما عمليتان مترابطتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، وأن تجربتنا الحسية للعالم ليست مجرد استقبال خام للمعلومات الحسية، بل هي تجربة معقدة تتداخل فيها العوامل العقلية والجسدية والنفسية، ويقول في ذلك : "الإدراك ليس مجرد عملية عقلية تأتي بعد الإحساس، بل هو جزء من عملية الإحساس نفسها"، ويضرب بونتي مثالاً على ذلك بالشخص الذي يرى شجرة، حيث لا يكون الإحساس مجرد استقبال للألوان والأشكال، بل يكون الإدراك جزءاً من عملية الإحساس نفسها، حيث يقوم العقل بتنظيم هذه المعلومات الحسية وإعطائها معنى بشكل فوري ، و يدعم هذا الموقف أيضاً الفيلسوف إدموند هوسرل ، الذي يعتبر مؤسس الفينومينولوجيا، حيث يرى هوسرل أن الإحساس والإدراك هما عمليتان مترابطتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، ففي كتابه (مقدمة إلى الفينومينولوجيا)، يشير هوسرل إلى أن تجربتنا الحسية للعالم ليست مجرد استقبال خام للمعلومات الحسية، بل هي تجربة واعية تتداخل فيها العوامل العقلية والنفسية، ويقول هوسرل: "الإدراك هو عملية واعية تتداخل فيها الحواس والعقل لتشكيل تجربتنا للعالم"، ويضرب هوسرل مثالاً على ذلك بالشخص الذي يرى سيارة، حيث لا يكون الإحساس مجرد استقبال للألوان والأشكال، بل يكون الإدراك جزءاً من عملية الإحساس نفسها، حيث يقوم العقل بتنظيم هذه المعلومات الحسية وإعطائها معنى بشكل فوري ، و من الأمثلة الأخرى التي تدعم هذا الموقف، نجد في علم النفس أن الإدراك الحسي يتأثر بالعوامل العقلية والنفسية، على سبيل المثال، قد يختلف إدراكنا للألوان أو الأصوات بناءً على توقعاتنا العقلية أو حالتنا النفسية، وهذا يشير إلى أن الإحساس والإدراك هما عمليتان مترابطتان لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، كما أن بعض التجارب الحسية، مثل تجربة الخداع البصري ، تشير إلى أن الإدراك يلعب دوراً أساسياً في تشكيل تجربتنا الحسية، حيث يمكن أن يؤثر الإدراك على كيفية تفسيرنا للمعلومات الحسية.
• النقد :
على الرغم من أن الموقف الثاني يقدم حججاً قوية، إلا أنه لا يخلو من النقد، أولاً، كيف نفسر التجارب الحسية التي تحدث دون أي تدخل عقلي؟ ، فعلى سبيل المثال، عندما نلمس شيئاً ساخناً، نشعر بالألم بشكل فوري دون الحاجة إلى عملية عقلية معقدة، وهذا يشير إلى أن الإحساس قد يكون عملية مستقلة عن الإدراك في بعض الحالات ، و ثانيا ، يمكن القول إن الإحساس والإدراك قد يكونان عمليتين منفصلتين في بعض الحالات، كما أشار الفيلسوف ديفيد هيوم ، الذي يرى أن العقل لا يتدخل في عملية الإحساس، بل يقوم فقط بتنظيم الانطباعات الحسية بعد استقبالها، وهذا يشير إلى أن العلاقة بين الإحساس والإدراك قد تكون انفصالية في بعض الحالات.
• التركيب :
بعد استعراض الموقفين المتعارضين وتحليل حججهما ونقدهما، يمكن القول إن العلاقة بين الإحساس والإدراك ليست علاقة انفصالية تماماً، و ليست اتصالية تماماً أيضاً، بل هي علاقة مركبة تجمع بين الجانبين، فمن جهة، يمكن أن يحدث الإحساس دون الإدراك في بعض الحالات، كما هو الحال في حالة العمه البصري أو عندما نشعر بالألم بشكل فوري دون الحاجة إلى عملية عقلية معقدة، ومن جهة أخرى، يمكن أن يؤثر الإدراك على الإحساس في بعض الحالات، كما هو الحال في تجربة الخداع البصري أو عندما يتأثر إدراكنا للألوان والأصوات بالحالة النفسية أو التوقعات العقلية ، و بذلك، يمكن القول إن الإحساس والإدراك هما عمليتان مترابطتان في معظم الحالات، لكن يمكن أن يحدث الإحساس دون الإدراك في بعض الحالات، كما أن الإدراك قد يؤثر على الإحساس في بعض الحالات، وهذا يشير إلى أن العلاقة بين الإحساس والإدراك هي علاقة مركبة تعتمد على السياق والتجربة الحسية والعقلية.
• حل المشكلة :
في النهاية، يمكن القول إن العلاقة بين الإحساس والإدراك هي علاقة معقدة تجمع بين الانفصال والترابط ، فالإحساس ليس مجرد استقبال خام للمعلومات الحسية، بل هو عملية معقدة تتداخل فيها العوامل العقلية والنفسية ، والإدراك ليس عملية منفصلة تأتي بعد الإحساس، بل هو جزء من عملية الإحساس نفسها، ومع ذلك، يمكن أن يحدث الإحساس دون الإدراك في بعض الحالات، كما أن الإدراك قد يؤثر على الإحساس في بعض الحالات، ومن هنا، فإن فهم العلاقة بين الإحساس والإدراك يتطلب النظر إلى هاتين العمليتين بوصفهما جزءاً من تجربة إنسانية معقدة تجمع بين الحواس و العقل .