• مقال حول الحق و الواجب :
_ أيهما أسبق الحق أم الواجب؟
![]() |
الحق و الواجب |
• طرح المشكلة :
منذ فجر الفلسفة، كان الجدل حول العلاقة بين الحق و الواجب من أكثر النقاشات تعقيدًا وأهمية ، إذ يتجلى في هذا النقاش السؤال عن طبيعة الإنسان وعلاقته بالمجتمع ، وعن الأسس التي تقوم عليها الأخلاق والقوانين ، فالحق هو ما يستحقه الفرد من المجتمع أو من الآخرين، بينما الواجب هو ما يلتزم به الفرد تجاه المجتمع أو تجاه الآخرين ، وقد ظهر تعارض بين الفلاسفة و المفكرين في ذلك ، حيث انقسموا إلى موقفين متعارضين ، الموقف الأول يرى أن الحق هو الذي يسبق الواجب، وأن الإنسان يمتلك حقوقًا طبيعية أو مكتسبة تفرض على الآخرين واجبات تجاهه ، و في المقابل، يرى الموقف الثاني أن الواجب هو الذي يسبق الحق، وأن الحقوق لا تُكتسب إلا من خلال القيام بالواجبات ، وبين هذا الصراع الفكري العميق يظهر السؤال ، أيهما يأتي أولاً؟ هل الحق هو الذي يسبق الواجب، بحيث يكون الواجب نتيجة طبيعية للحقوق التي نتمتع بها؟ أم أن الواجب هو الذي يسبق الحق، بحيث لا يمكن للفرد أن يطالب بحقوقه إلا إذا قام بواجباته أولاً؟ ، او بمعنى اخر ، هل يمكننا حقًا القول إن الحقوق تأتي قبل الواجبات، أم أن الواجبات هي التي تشكل الأساس الذي تُبنى عليه الحقوق؟
• محاولة حل المشكلة :
• الموقف الأول :
يرى أنصار هذا الموقف أن الحق هو الذي يسبق الواجب ، وأن الإنسان يمتلك حقوقًا طبيعية أو مكتسبة تفرض على الآخرين واجبات تجاهه ، فالحقوق، بحسب هذا الموقف، هي الأساس الذي تُبنى عليه الواجبات، إذ لا يمكن للفرد أن يكون ملزمًا بأداء واجب ما إلا إذا كان هناك حق يستدعي هذا الواجب ، و بمعنى آخر، الواجب هو نتيجة طبيعية للحقوق التي يتمتع بها الفرد، وليس العكس ، و يستند هذا الموقف إلى الفيلسوف جون لوك ، الذي يعتبر من أبرز المدافعين عن فكرة الحقوق الطبيعية ، ففي كتابه (رسالتان في الحكومة المدنية)، يرى لوك أن الإنسان يمتلك حقوقًا طبيعية غير قابلة للتصرف، مثل الحق في الحياة و الحرية و الملكية ، ويقول: "الإنسان يولد حرًا ومتساويًا في الحقوق"، ومن هذه الحقوق تنبثق الواجبات التي يجب على الآخرين احترامها ، فمثلاً، إذا كان للفرد الحق في الحياة، فإن هذا يفرض على الآخرين واجب عدم الاعتداء عليه أو قتله ، و يدعم هذا الموقف أيضًا الفيلسوف إيمانويل كانط ، الذي يرى أن الحقوق هي التي تفرض الواجبات الأخلاقية ، ففي كتابه (أسس ميتافيزيقا الأخلاق) ، يشير كانط إلى أن الإنسان يمتلك كرامة بوصفه كائنًا عاقلاً، وهذه الكرامة تمنحه حقوقًا طبيعية يجب على الآخرين احترامها ، ويقول كانط: "الإنسان غاية في ذاته، وليس وسيلة"، وهذا يعني أن حقوق الإنسان هي التي تفرض على الآخرين واجب احترامه ومعاملته بكرامة ، ومن الأمثلة الأخرى التي تدعم هذا الموقف، نجد في القانون الدولي أن حقوق الإنسان تُعتبر الأساس الذي تُبنى عليه الواجبات الدولية ، فمثلاً، ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن لكل فرد الحق في الحياة والحرية و الأمن الشخصي، وهذه الحقوق تفرض على الدول واجب حماية هذه الحقوق وضمان عدم انتهاكها ، وهذا يشير إلى أن الحقوق هي التي تسبق الواجبات، وأن الواجبات تُبنى على أساس الحقوق التي يتمتع بها الفرد.
• النقد :
على الرغم من أن الموقف الأول يقدم حججًا قوية، إلا أنه لا يخلو من النقد ، أولاً، إذا كانت الحقوق هي التي تسبق الواجبات، فكيف نفسر الحالات التي يتعين فيها على الفرد القيام بواجباته قبل أن يتمتع بحقوقه؟ ، فعلى سبيل المثال، في المجتمع، قد يُطلب من الفرد أن يؤدي واجباته تجاه الآخرين أو تجاه الدولة قبل أن يتمتع بحقوقه الكاملة ، فمثلاً، في بعض الدول، لا يمكن للفرد أن يتمتع بحقوق المواطنة الكاملة إلا إذا قام بواجباته تجاه الدولة، مثل دفع الضرائب أو الخدمة العسكرية ، و ثانيًا، إذا كانت الحقوق هي التي تفرض الواجبات، فكيف نفسر الحالات التي لا يكون فيها للفرد حقوق واضحة ، ولكن يجب عليه القيام بواجبات معينة؟ ، فعلى سبيل المثال، قد يكون للفرد واجب أخلاقي تجاه الآخرين، حتى لو لم يكن لديه حقوق واضحة في هذا السياق ، فمثلاً، قد يكون للفرد واجب مساعدة الآخرين في حالات الطوارئ ، حتى لو لم يكن لديه حق مباشر في الحصول على المساعدة ، و ثالثًا، يمكن القول إن الحقوق ليست دائمًا ثابتة أو مطلقة، بل قد تتغير بناءً على الظروف الاجتماعية والسياسية ، وهذا يعني أن الواجبات قد تكون أحيانًا هي التي تشكل الأساس الذي تُبنى عليه الحقوق، وليس العكس .
• الموقف الثاني :
على النقيض من الموقف الأول، يرى أنصار هذا الموقف أن الواجب هو الذي يسبق الحق، وأن الحقوق لا تُكتسب إلا من خلال القيام بالواجبات ، فالواجبات، بحسب هذا الموقف، هي الأساس الذي تُبنى عليه الحقوق، إذ لا يمكن للفرد أن يطالب بحقوقه إلا إذا قام بواجباته تجاه الآخرين أو تجاه المجتمع ، و بمعنى آخر، الحقوق هي نتيجة طبيعية للواجبات التي يقوم بها الفرد، وليس العكس ، و يدعم هذا الموقف الفيلسوف جورج فيلهلم فريدريش هيغل ، الذي يرى أن الواجبات هي التي تشكل الحقوق، وليس العكس ، ففي كتابه (فلسفة الحق)، يشير هيغل إلى أن الحقوق ليست شيئًا طبيعيًا أو ثابتًا، بل هي نتاج التطور التاريخي والعلاقات الاجتماعية ، ويقول هيغل: "الحق هو ما يتجسد في الواقع الاجتماعي"، وهذا يعني أن الحقوق تُكتسب من خلال القيام بالواجبات التي تفرضها العلاقات الاجتماعية والسياسية ، فمثلاً، لا يمكن للفرد أن يطالب بحقوق المواطنة إلا إذا قام بواجباته تجاه الدولة والمجتمع ، و يدعم هذا الموقف أيضًا الفيلسوف أوغست كونت ، الذي يعتبر من أبرز المدافعين عن فكرة الإلزام الاجتماعي ، ففي كتابه (النظام السياسي الإيجابي)، يرى كونت أن الفرد لا يمكنه أن يطالب بحقوقه إلا إذا قام بواجباته تجاه المجتمع ، يقول: "الواجبات تسبق الحقوق"، وهذا يعني أن الحقوق تُكتسب من خلال القيام بالواجبات التي تفرضها العلاقات الاجتماعية والسياسية ، فمثلاً، لا يمكن للفرد أن يطالب بحقوق المواطنة إلا إذا قام بواجباته تجاه الدولة والمجتمع ، و من الأمثلة الأخرى التي تدعم هذا الموقف ، نجد في بعض الأنظمة القانونية أن الحقوق تُكتسب من خلال القيام بالواجبات ، فمثلاً، في بعض الدول، لا يمكن للفرد أن يتمتع بحقوق المواطنة الكاملة إلا إذا قام بواجباته تجاه الدولة ، مثل دفع الضرائب أو الخدمة العسكرية ، وهذا يشير إلى أن الواجبات هي التي تسبق الحقوق، وأن الحقوق تُبنى على أساس الواجبات التي يقوم بها الفرد.
• النقد :
على الرغم من أن الموقف الثاني يقدم حججًا قوية، إلا أنه لا يخلو من النقد ، أولاً، إذا كانت الواجبات هي التي تسبق الحقوق، فكيف نفسر الحالات التي يتمتع فيها الفرد بحقوقه دون الحاجة إلى القيام بواجبات معينة؟ ، فعلى سبيل المثال، في بعض الأنظمة القانونية، يتمتع الفرد بحقوق الإنسان الأساسية، مثل الحق في الحياة والحرية، دون الحاجة إلى القيام بواجبات محددة تجاه الآخرين أو تجاه الدولة ، و ثانيًا، إذا كانت الواجبات هي التي تشكل الحقوق، فكيف نفسر الحالات التي يتم فيها انتهاك حقوق الفرد دون أن يكون قد أخفق في القيام بواجباته؟ ، فعلى سبيل المثال، قد يتم انتهاك حقوق الإنسان في بعض الدول دون أن يكون الفرد قد أخفق في القيام بواجباته تجاه المجتمع ، وهذا يشير إلى أن الحقوق قد تكون أحيانًا مستقلة عن الواجبات ، وأن الفرد قد يتمتع بحقوقه بغض النظر عن قيامه بواجباته ، و ثالثًا، يمكن القول إن الواجبات ليست دائمًا واضحة أو محددة، بل قد تكون غامضة أو متغيرة بناءً على الظروف الاجتماعية والسياسية ، وهذا يعني أن الحقوق قد تكون أحيانًا هي التي تشكل الأساس الذي تُبنى عليه الواجبات، وليس العكس ، كما أشار الفيلسوف جون راولز في كتابه (نظرية العدالة)، حيث يرى أن الحقوق الأساسية، مثل الحق في الحرية والحق في المساواة ، يجب أن تكون محمية بغض النظر عن الواجبات التي يقوم بها الفرد ، ويقول راولز: "العدالة هي الإنصاف"، وهذا يعني أن الحقوق يجب أن تكون محمية بغض النظر عن الواجبات التي يقوم بها الفرد.
• التركيب :
بعد استعراض الموقفين المتعارضين وتحليل حججهما ونقدهما، يمكن القول إن العلاقة بين الحق و الواجب ليست علاقة انفصالية أو تنافسية، بل هي علاقة تكاملية ، فالحق والواجب يشكلان وجهين لعملة واحدة ، حيث لا يمكن لأحدهما أن يوجد دون الآخر ، فمن جهة، الحقوق تُعتبر الأساس الذي تُبنى عليه الواجبات، إذ لا يمكن للفرد أن يكون ملزمًا بأداء واجب ما إلا إذا كان هناك حق يستدعي هذا الواجب ، ومن جهة أخرى، الواجبات تُعتبر الأساس الذي تُبنى عليه الحقوق، إذ لا يمكن للفرد أن يطالب بحقوقه إلا إذا قام بواجباته تجاه الآخرين أو تجاه المجتمع ، وبذلك، يمكن القول إن التكيف مع الواقع الأخلاقي والاجتماعي يتطلب التوازن بين الحق والواجب، حيث يجب على الفرد أن يتمتع بحقوقه وفي الوقت نفسه يقوم بواجباته تجاه الآخرين والمجتمع ، وهذا يعني أن الحقوق والواجبات ليستا متعارضتين، بل هما متكاملتان، حيث يشكل كل منهما الأساس الذي يُبنى عليه الآخر.
• حل المشكلة :
في النهاية، يمكن القول إن العلاقة بين الحق و الواجب هي علاقة تكاملية تجمع بين الحقوق التي يتمتع بها الفرد والواجبات التي يجب عليه القيام بها تجاه الآخرين والمجتمع ، فالحق والواجب يشكلان أساسًا مشتركًا للأخلاق والقانون، حيث لا يمكن لأحدهما أن يوجد دون الآخر ، ومن هنا، فإن فهم العلاقة بين الحق والواجب يتطلب النظر إلى هاتين القوتين بوصفهما جزءًا من تجربة إنسانية معقدة تجمع بين الحرية والمسؤولية، وبين الحقوق والواجبات.