• مقال حول العادة و الارادة :
_ هل التكيف مع الواقع يكون بالعادة أم بالإرادة؟
_ هل يأتي التكيف مع الواقع من عادات متأصلة أم من رغبة واعية؟
_ هل يعتمد التكيف مع الواقع على الاستجابة الطبيعية أم على الإرادة الشخصية؟
_ كيف يتم التكيف مع الواقع: من خلال العادات اليومية أم من خلال قرار واعٍ؟
_ هل التكيف مع الواقع نتيجة للتكرار والعادة، أم أنه نتاج للإرادة والتصميم؟
![]() |
العادة و الارادة |
• طرح المشكلة :
لطالما كان التكيف مع الواقع موضوعًا فلسفيًا عميقًا أثار اهتمام المفكرين والفلاسفة على مر العصور ، فالتكيف مع العالم الخارجي، بما يحمله من تحديات وتغيرات، هو جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، وقد انقسم إلى موقفين متعارضين، الموقف الأول يرى أن التكيف مع الواقع يتم بفعل العادة، وأن الإنسان يتأقلم مع الظروف المحيطة به تدريجيًا من خلال التكرار والتعلم غير الواعي ، بينما يرى الموقف الثاني أن التكيف مع الواقع هو نتيجة الإرادة الحرة، وأن الإنسان يمتلك القدرة على تغيير مسار حياته وتكييف نفسه مع الظروف من خلال قرارات واعية وإرادة قوية، وبين هذا الصراع الفكري العميق ، ظهر سؤال جوهري: هل يمكننا حقًا القول إن العادة هي التي تتحكم في تكيفنا مع الواقع، أم أن الإرادة الحرة هي التي تمنحنا القدرة على التكيف؟ ، او بعبارة أخرى ، كيف يتم هذا التكيف؟ هل هو نتيجة العادة ، تلك القوة التي تتشكل عبر التكرار والتأقلم التدريجي مع الظروف، أم أنه نتيجة الإرادة ، أي القدرة الواعية للفرد على اتخاذ قرارات حرة وتوجيه حياته وفقًا لما يراه مناسبًا؟.
• محاولة حل المشكلة :
• الموقف الأول :
يرى أنصار هذا الموقف أن التكيف مع الواقع يتم بفعل العادة ، حيث يعتبرون أن الإنسان كائن يتأقلم مع الظروف المحيطة به تدريجيًا من خلال التكرار والتعلم غير الواعي، فالعادة، بحسب هذا الموقف، هي القوة التي تشكل سلوك الإنسان وتوجهه نحو التكيف مع العالم الخارجي ، ويستند هذا الموقف إلى فكرة أن الإنسان يتعلم من خلال التجربة والتكرار، وأنه مع مرور الوقت، يصبح قادرًا على التكيف مع الظروف المحيطة به بشكل تلقائي ودون الحاجة إلى تدخل الإرادة الواعية ، و يستند هذا الموقف إلى الفيلسوف ديفيد هيوم ، الذي يعتبر من أبرز المدافعين عن فكرة العادة كقوة موجهة للسلوك الإنساني، ففي كتابه (مبحث في الفهم البشري)، يرى هيوم أن جميع معارفنا وسلوكياتنا تعتمد على العادة، يقول: "العقل لا يتدخل في معظم أفعالنا، بل العادة هي التي توجهنا"، ويضرب هيوم مثالاً على ذلك بتجربة الإنسان مع النار ، حيث يتعلم الإنسان من خلال التكرار أن النار تحرق ، وبالتالي يتجنب لمسها دون الحاجة إلى تفكير أو تدخل إرادي، فالتكيف مع الواقع هنا يتم من خلال العادة التي تشكلت عبر التجربة والتكرار ، و يدعم هذا الموقف أيضًا الفيلسوف أرسطو ، الذي يرى أن العادة تلعب دورًا أساسيًا في تشكيل الفضائل والسلوكيات الإنسانية، ففي كتابه (الأخلاق النيقوماخية)، يشير أرسطو إلى أن الفضائل الأخلاقية تتشكل من خلال العادة، ويقول: "نحن نصبح ما نفعله بشكل متكرر"، وهذا يعني أن التكيف مع الواقع الأخلاقي والاجتماعي يتم من خلال العادة والتكرار، وليس من خلال الإرادة الحرة أو القرارات الواعية، فالأفعال المتكررة تشكل شخصية الإنسان وتوجهه نحو التكيف مع الظروف المحيطة به ، و من الأمثلة الأخرى التي تدعم هذا الموقف، نجد في علم النفس أن السلوكيات المكتسبة تعتمد بشكل كبير على العادة والتكرار، فعلى سبيل المثال، يتعلم الأطفال كيفية التكيف مع بيئتهم من خلال تكرار التجارب والتعلم التدريجي، حيث يصبحون قادرين على التكيف مع المواقف المختلفة دون الحاجة إلى تدخل الإرادة الواعية، وهذا يشير إلى أن التكيف مع الواقع يتم بفعل العادة التي تتشكل عبر التجربة والتكرار ، وقد ظهرت الكثير من الكتب التي تناقش هذا مثل كتاب العادات الذرية لجيمس كلير حيث يبرز فيه ان التكيف مع الواقع يكون عن طريق العادات .
• النقد :
على الرغم من أن الموقف الأول يقدم حججًا قوية، إلا أنه لا يخلو من النقد، أولاً، إذا كان التكيف مع الواقع يتم بفعل العادة فقط، فكيف نفسر القدرة على اتخاذ قرارات حرة وتغيير مسار الحياة بشكل مفاجئ؟ ، فعلى سبيل المثال، قد يقرر شخص ما فجأة تغيير نمط حياته بشكل جذري، مثل الانتقال إلى مدينة جديدة أو تغيير مهنته، وهذا يشير إلى أن الإرادة الحرة تلعب دورًا في التكيف مع الواقع، وأن العادة ليست العامل الوحيد الذي يوجه سلوك الإنسان ، و ثانيًا، إذا كانت العادة هي التي تتحكم في التكيف مع الواقع، فكيف نفسر الحالات التي يتم فيها التكيف مع مواقف جديدة و غير مألوفة؟ ، فعلى سبيل المثال، عندما يواجه الإنسان موقفًا جديدًا لم يسبق له أن اختبره، مثل السفر إلى بلد جديد أو التعامل مع تحديات غير متوقعة، فإنه يعتمد على إرادته الحرة لاتخاذ قرارات مناسبة والتكيف مع الظروف الجديدة ، وهذا يشير إلى أن الإرادة تلعب دورًا في التكيف مع الواقع، وأن العادة ليست كافية لتفسير جميع حالات التكيف ، و ثالثًا، يمكن القول إن العادة قد تكون قوة موجهة للسلوك في بعض الحالات، لكنها ليست العامل الوحيد الذي يحدد كيفية تكيف الإنسان مع الواقع، و كما أشار الفيلسوف جان بول سارتر في كتابه (الوجود والعدم)، حيث يرى سارتر أن الإنسان يمتلك الحرية المطلقة في اتخاذ قراراته وتوجيه حياته، ويقول: "الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرًا"، وهذا يعني أن الإرادة الحرة تلعب دورًا أساسيًا في توجيه سلوك الإنسان وتكيفه مع الواقع، وأن العادة ليست العامل الوحيد الذي يحدد كيفية التكيف.
• الموقف الثاني :
على النقيض من الموقف الأول، يرى أنصار هذا الموقف أن التكيف مع الواقع يتم بفعل الإرادة الحرة ، حيث يعتبرون أن الإنسان يمتلك القدرة على اتخاذ قرارات حرة وتوجيه حياته وفقًا لما يراه مناسبًا، فالإرادة، بحسب هذا الموقف، هي القوة التي تمنح الإنسان القدرة على التكيف مع الظروف المحيطة به بشكل واعٍ ومدروس، ويستند هذا الموقف إلى فكرة أن الإنسان يمتلك حرية الاختيار، وأنه قادر على تغيير مسار حياته وتكييف نفسه مع الظروف من خلال قراراته الواعية وإرادته الحرة ، و يدعم هذا الموقف الفيلسوف جان بول سارتر ، الذي يعتبر من أبرز المدافعين عن فكرة الإرادة الحرة كقوة موجهة للسلوك الإنساني، ففي كتابه ( الوجود والعدم)، يرى سارتر أن الإنسان يمتلك (الحرية المطلقة)، وهذا يعني أن التكيف مع الواقع يتم من خلال الإرادة الحرة، حيث يمتلك الإنسان القدرة على اتخاذ قرارات حرة وتكييف نفسه مع الظروف المحيطة به، ويضرب سارتر مثالاً على ذلك بالشخص الذي يقرر تغيير نمط حياته بشكل جذري، مثل الانتقال إلى مدينة جديدة أو تغيير مهنته، حيث يعتمد هذا التغيير على الإرادة الحرة وليس على العادة أو التكرار ،و يدعم هذا الموقف أيضًا الفيلسوف فريدريك نيتشه ، الذي يرى أن الإرادة الحرة تلعب دورًا أساسيًا في توجيه سلوك الإنسان وتكيفه مع الواقع، ففي كتابه (هكذا تكلم زرادشت)، يشير نيتشه إلى أن الإنسان يمتلك إرادة القوة ، وهي القوة التي تمنحه القدرة على تجاوز التحديات والتكيف مع الظروف المحيطة به، ويقول نيتشه : "ما لا يقتلني يجعلني أقوى"، وهذا يعني أن التكيف مع الواقع يتم من خلال الإرادة الحرة التي تمنح الإنسان القدرة على مواجهة التحديات وتجاوزها، وليس من خلال العادة أو التكرار ، ومن الأمثلة الأخرى التي تدعم هذا الموقف، نجد في علم النفس أن القرارات الواعية تلعب دورًا أساسيًا في توجيه سلوك الإنسان وتكيفه مع الواقع، فعلى سبيل المثال، عندما يواجه الإنسان موقفًا جديدًا أو تحديًا غير متوقع، فإنه يعتمد على إرادته الحرة لاتخاذ قرارات مناسبة والتكيف مع الظروف الجديدة، وهذا يشير إلى أن الإرادة الحرة تلعب دورًا أساسيًا في التكيف مع الواقع، وأن العادة ليست العامل الوحيد الذي يوجه سلوك الإنسان.
• النقد :
على الرغم من أن الموقف الثاني يقدم حججًا قوية، إلا أنه لا يخلو من النقد، أولاً، إذا كان التكيف مع الواقع يتم بفعل الإرادة الحرة فقط، فكيف نفسر السلوكيات التي تتشكل من خلال العادة والتكرار؟ ، فعلى سبيل المثال، يتعلم الأطفال كيفية التكيف مع بيئتهم من خلال تكرار التجارب والتعلم التدريجي، حيث يصبحون قادرين على التكيف مع المواقف المختلفة دون الحاجة إلى تدخل الإرادة الواعية، وهذا يشير إلى أن العادة تلعب دورًا في التكيف مع الواقع، وأن الإرادة ليست العامل الوحيد الذي يوجه سلوك الإنسان ، و ثانيًا، إذا كانت الإرادة الحرة هي التي تتحكم في التكيف مع الواقع، فكيف نفسر الحالات التي يتم فيها التكيف مع الظروف بشكل غير واعٍ أو تلقائي؟ ، على سبيل المثال، عندما يواجه الإنسان موقفًا مألوفًا أو متكررًا، فإنه يتكيف مع هذا الموقف بشكل تلقائي ودون الحاجة إلى تدخل الإرادة الواعية، وهذا يشير إلى أن العادة تلعب دورًا في التكيف مع الواقع، وأن الإرادة ليست العامل الوحيد الذي يحدد كيفية التكيف ،و ثالثًا، يمكن القول إن الإرادة الحرة قد تكون قوة موجهة للسلوك في بعض الحالات، لكنها ليست العامل الوحيد الذي يحدد كيفية تكيف الإنسان مع الواقع، كما أشار الفيلسوف إيمانويل كانط في كتابه (نقد العقل العملي)، حيث يرى كانط أن الإنسان يمتلك إرادة حرة ، لكنه في الوقت نفسه يتأثر بالعوامل الخارجية والظروف المحيطة به، ويقول: "الحرية لا تعني الفوضى، بل هي القدرة على التصرف وفقًا للقوانين العقلية"، وهذا يعني أن التكيف مع الواقع يتم من خلال تفاعل بين الإرادة الحرة والعوامل الخارجية، وأن الإرادة ليست العامل الوحيد الذي يحدد كيفية التكيف.
• التركيب :
بعد استعراض الموقفين المتعارضين وتحليل حججهما ونقدهما، يمكن القول إن التكيف مع الواقع ليس نتيجة العادة فقط، وليس نتيجة الإرادة الحرة فقط أيضًا، بل هو نتيجة تفاعل معقد بين العادة والإرادة ، فمن جهة، تلعب العادة دورًا أساسيًا في توجيه سلوك الإنسان وتكيفه مع المواقف المتكررة والمألوفة، حيث يتعلم الإنسان من خلال التكرار والتجربة كيفية التكيف مع الظروف المحيطة به بشكل تلقائي ودون الحاجة إلى تدخل الإرادة الواعية ، ومن جهة أخرى، تلعب الإرادة الحرة دورًا أساسيًا في توجيه سلوك الإنسان وتكيفه مع المواقف الجديدة وغير المألوفة، حيث يمتلك الإنسان القدرة على اتخاذ قرارات حرة وتكييف نفسه مع الظروف المحيطة به بشكل واعٍ ومدروس ،و بذلك، يمكن القول إن التكيف مع الواقع هو عملية مركبة تعتمد على التفاعل بين العادة والإرادة ، حيث تتشكل العادة من خلال التجربة والتكرار، وتمنح الإنسان القدرة على التكيف مع المواقف المتكررة والمألوفة، بينما تمنح الإرادة الحرة الإنسان القدرة على التكيف مع المواقف الجديدة وغير المألوفة من خلال اتخاذ قرارات حرة ومدروسة، وهذا يعني أن التكيف مع الواقع ليس نتيجة عامل واحد فقط، بل هو نتيجة تفاعل بين العادة والإرادة.
• حل المشكلة :
في النهاية، يمكن القول إن التكيف مع الواقع هو عملية معقدة تجمع بين العادة والإرادة، فالعادات التي تتشكل من خلال التكرار والتجربة تلعب دورًا أساسيًا في توجيه سلوك الإنسان وتكيفه مع المواقف المتكررة والمألوفة، بينما تلعب الإرادة الحرة دورًا أساسيًا في توجيه سلوك الإنسان وتكيفه مع المواقف الجديدة وغير المألوفة، ومن هنا، فإن فهم التكيف مع الواقع يتطلب النظر إلى هاتين القوتين بوصفهما جزءًا من تجربة إنسانية معقدة تجمع بين التكرار والحرية، وبين العادة والإرادة، وهذا يعني أن الإنسان يمتلك القدرة على التكيف مع الواقع من خلال تفاعل بين العادة التي تشكل سلوكياته المتكررة، والإرادة الحرة التي تمنحه القدرة على اتخاذ قرارات حرة وتوجيه حياته وفقًا لما يراه مناسبًا.