مقال حول نتائج الرياضيات _ هل اليقين الرياضي مطلق ام نسبي ؟

• مقال اليقين الرياضي :

_ هل اليقين الرياضي مطلق ام نسبي ؟
_ هل نتائج الرياضيات مطلقة ام نسبية ؟
_ هل يمكن وصف نتائج الرياضيات بالمطلقية ؟



• طرح المشكلة :

لطالما كانت الرياضيات موضوعًا شائكًا يثير نقاشات عميقة حول طبيعة اليقين الذي تقدمه ، بين حقائق أزلية مطلقة تتجاوز حدود الزمن والمكان ، أو بناء نسبي يعتمد على الافتراضات البشرية والثقافة الفكرية السائدة ، و تبدو الرياضيات كالعلم الأكثر دقة في العالم، ذلك العلم الذي تنبني عليه الحضارات، بدءًا من أهرامات مصر إلى التكنولوجيا الحديثة ، ولكن، حين نتأمل بعمق، نجد أن التساؤل عن طبيعة اليقين الرياضي ليس بسيطًا ، فقد اختلف الفلاسفة عبر العصور بين من يرى أن الرياضيات تمثل حقائق مطلقة، وبين من يعتقد أنها نسبية وتتغير بتغير السياق ، و يبقى السؤال المطروح ، هل اليقين الرياضي مطلق أم نسبي؟ ، وكيف يمكن تفسير هذا الاختلاف الجذري بين الفلاسفة؟

• محاولة حل المشكلة :

• الموقف الأول :

تعود جذور هذا الموقف إلى الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، الذي اعتبر الرياضيات جزءًا من عالم المُثُل ، وهو عالم يتجاوز الحواس البشرية ، حيث تعيش الحقائق الأبدية في نقاء تام ، و يرى أفلاطون أن المثلثات، والدوائر ، والأرقام ليست مجرد أفكار بشرية، بل كيانات حقيقية موجودة في هذا العالم المثالي ، فعلى سبيل المثال، عندما نتحدث عن مثلث متساوي الساقين، نحن لا نصف شكلاً ملموسًا، بل نشير إلى فكرة مثالية ثابتة لا تتغير ، يقول أفلاطون : "الرياضيات هي ظل الحقائق المطلقة في عالم المُثُل" ، و في العصور الحديثة، عزز رينيه ديكارت هذا التصور، مشيرًا إلى أن الرياضيات تعتمد على الوضوح والتمييز، وهما معيارا الحقيقة المطلقة ، و أكد ديكارت في كتابه (التأملات الميتافيزيقية) أن المعادلات الرياضية مثل (2+3=5) لا تعتمد على أي تجربة، بل هي صحيحة بذاتها ، يقول ديكارت :"لا يمكن أن تكون الحقيقة الرياضية إلا يقينية، لأنها تعكس طبيعة العقل الخالص" ، أما عالم الرياضيات والفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنيتز، فقد ذهب إلى أن الرياضيات هي لغة الكون التي لا تقبل الخطأ ، و يعتقد لايبنيتز أن القوانين الرياضية ليست مجرد حقائق، بل هي القوانين التي صُمم بها الكون ، فعلى سبيل المثال، قانون الجاذبية يعتمد على الرياضيات، ما يدل على أن هذه القوانين ليست بشرية المنشأ بل كونية ، يقول لايبنيتز : "الرياضيات ليست علمًا بشريًا ، بل هي الشيفرة التي كتب بها الإله كتاب الطبيعة" ، فالمعادلات التي استخدمها الإغريق قبل آلاف السنين لا تزال صالحة اليوم ، مثلًا، نظرية فيثاغورس تطبق في كل زمان ومكان ، و يرى أنصار هذا الموقف أن الرياضيات لا تحتاج إلى التجربة أو الحواس لإثبات صحتها، فهي قائمة على العقل والمنطق ، و الرياضيات هي لغة مشتركة في الكون ، و قوانين الفيزياء التي تعتمد على الرياضيات تطبق على الكواكب والنجوم بنفس الطريقة التي تطبق بها على الأرض ، كما أن إحدى خصائص الرياضيات أنها خالية من التناقض ، فالمعادلة الرياضية إما صحيحة دائمًا أو خاطئة دائمًا، ما يجعلها نموذجًا للمعرفة المطلقة ، فإذا رسمت مثلثًا رؤوسه الثلاث موزعة عبر ابعد المجرات في أي مكان في الكون، فمجموع زواياه سيكون دائمًا 180 درجة ، و هذه القاعدة لا تتغير بغض النظر عن الظروف ، كما اكتشاف الأعداد الأولية قديم جدًا، لكنها لا تزال أساس التشفير الإلكتروني الحديث ، و قيمتها وحقيقتها لم تتغير ، و يعتمد الحاسوب و الذكاء الاصطناعي على مبادئ رياضية ثابتة ، و بدون الرياضيات، لم يكن بالإمكان تصميم معالجات الحواسيب أو بناء الشبكات ، و يتم تفسير حركة الكواكب والنجوم من خلال قوانين نيوتن التي تعتمد على الرياضيات ، و هذه القوانين تعمل بدقة مذهلة بغض النظر عن الموقع في الكون.

• النقد :

رغم قوة هذا الموقف، إلا أنه لا يخلو من انتقادات قوية ، فبعض النظريات الرياضية لم تكن يقينية إلا بعد أن أثبتتها التجربة ، فعلى سبيل المثال، الهندسة الإقليدية تفشل في وصف الفضاء المنحني ، كما أن تطور النظريات الرياضية بمرور الزمن يعكس أن اليقين الرياضي ليس مطلقًا ، فالنظريات التي كانت تُعتبر حقائق في الماضي تم تعديلها لاحقًا ، و ظهور أنظمة رياضية جديدة، مثل الهندسة غير الإقليدية، يشير إلى أن الرياضيات ليست واحدة مطلقة، بل تتعدد بتعدد الافتراضات ، كما بعض الشعوب القديمة طورت أنظمة رياضية خاصة بها تختلف عن تلك التي نعرفها ، ما يشير إلى أن الرياضيات قد تكون متأثرة بالبيئة الثقافية.

• الموقف الثاني :

على النقيض من الرؤية المطلقة لليقين الرياضي، يرى أنصار الموقف الثاني أن الرياضيات ليست كيانًا مستقلًا عن الإنسان أو الواقع، بل هي بناء فكري تم تطويره لخدمة احتياجات معينة، وبالتالي فهي نسبيّة تعتمد على الافتراضات البشرية، الثقافة، والتجربة ، و هؤلاء الفلاسفة لا ينكرون دقة الرياضيات، ولكنهم يشككون في ادعائها بأنها تمثل حقيقة مطلقة ، ومن أبرز رواد هذا الاتجاه الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل ، الذي رأى أن الرياضيات ليست سوى تعميمات مستخلصة من التجربة الحسية ، و بالنسبة لميل، الحقائق الرياضية مثل (2+2=4) ليست حقائق أبدية، بل هي نتاج خبراتنا في عد الأشياء ، فعلى سبيل المثال، فكرة الجمع هي نتاج لتفاعلنا اليومي مع الأشياء المادية، ولا يمكن فصلها عن التجربة الإنسانية ، وبتالي ، فإن نتائجها احتمالية نسبية ، يقول جون ستيوارت ميل :"الرياضيات ليست مطلقة، بل هي تعبير عن أنماط متكررة نلاحظها في الطبيعة" ، و في العصر الحديث، ذهب الفيلسوف هنري بوانكاريه أبعد من ذلك، حيث رأى أن الرياضيات ليست أكثر من اتفاقيات بشرية ، و وفقًا لبوانكاريه، فإن المبادئ الرياضية مثل "خط مستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين" ليست حقيقة موضوعية، بل اختيار من بين خيارات متعددة ، فالهندسة الإقليدية ليست أفضل أو أسوأ من الهندسة غير الإقليدية، بل هي مجرد أداة نستخدمها لأنها تناسب احتياجاتنا ، يقول بوانكاريه : "الرياضيات هي خادمة التجربة، وليست ملكة الحقائق الأبدية" ، أما الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين ، فقد رأى أن الرياضيات تعتمد على قواعد تُحددها الجماعات البشرية ، و بالنسبة لفيتغنشتاين، الحقائق الرياضية لا معنى لها خارج سياق الاستخدام البشري ، فعلى سبيل المثال، إذا لم تكن هناك حاجة إلى حساب الزمن أو المساحات، لما كان هناك مفهوم للأعداد أو الهندسة ، يقول فيتغنشتاين: "الرياضيات هي لعبة لغوية، قواعدها ليست أبدية بل وضعها البشر" ، كما أن الرياضيات لم تكن لتتطور لولا التجربة البشرية ، و مفهوم العدد ذاته نشأ من الحاجة إلى عد الأشياء المادية، والهندسة تطورت بسبب الحاجة إلى قياس الأراضي ، و ظهور أنظمة رياضية مختلفة، مثل الهندسة غير الإقليدية التي تنفي أن مجموع زوايا المثلث دائمًا 180 درجة، يثبت أن الرياضيات ليست مطلقة بل تعتمد على الافتراضات التي نبدأ بها ، كما أن الرياضيات ليست ثابتة، بل تتغير مع تقدم الزمن ،  فالنظريات الرياضية التي كانت تُعتبر يقينية في الماضي، مثل نظرية أرسطو عن الأعداد، أصبحت اليوم غير صالحة ، كما أن طرق التفكير الرياضي تختلف باختلاف الثقافات ، فعلى سبيل المثال، الرياضيات عند الحضارة البابلية كانت تركز على العمليات الحسابية، بينما ركز الإغريق على البرهان ، و هذا الاختلاف يدل على أن الرياضيات ليست عالمية كما يُعتقد ، و في الهندسة الإقليدية، يُفترض أن الخطوط المستقيمة لا تتقاطع، لكن في الهندسة الكروية، الخطوط المستقيمة قد تتقاطع ، و هذه الاختلافات تثبت أن الرياضيات ليست مطلقة ، كما أن معادلات نيوتن الكلاسيكية، التي كانت تُعتبر مطلقة، تم استبدالها بنظريات أينشتاين التي أظهرت أن القوانين الفيزيائية (وبالتالي الرياضيات التي تصفها) تعتمد على إطار المرجع ، كما أن فكرة الأعداد السالبة و المركبة كانت غير مقبولة في الماضي لأنها لا تنطبق على الواقع المادي، لكنها أصبحت مقبولة فيما بعد بسبب الحاجة إليها في الرياضيات.

• النقد :

يرى النقاد أن الرياضيات ليست مجرد تعميمات من الواقع ، فالأعداد الكبيرة والمعادلات المجردة ليست لها أي صلة مباشرة بالتجربة المادية، ومع ذلك هي صحيحة ، و رغم الاختلافات الثقافية، المبادئ الأساسية للرياضيات ثابتة في جميع الحضارات ، فنظرية فيثاغورس ، على سبيل المثال، صالحة في كل مكان ، و إذا كانت الرياضيات نسبية، فكيف تفسر نجاحها المذهل في وصف الظواهر الكونية مثل حركة الكواكب أو تصميم التكنولوجيا؟ ، كما أنها تتمتع باتساق داخلي يجعلها تبدو كيانًا قائمًا بذاته، لا يعتمد على أي سياق خارجي.

• التركيب :

لا يمكن إنكار قوة الحجج المقدمة من كلا الموقفين ، الرياضيات، في جوهرها، تحتوي على جوانب مطلقة وأخرى نسبية ، و يمكن القول إن المبادئ الأساسية للرياضيات، مثل العمليات الحسابية والهندسة البسيطة، تحمل طابعًا مطلقًا، لأنها تنبع من منطق داخلي ، ومع ذلك، فإن تطور الرياضيات وظهور أنظمة جديدة يشير إلى أن هناك جانبًا نسبيًا يعتمد على السياق البشري والثقافي .

• حل المشكلة :

يمكننا أن نرى نتائج الرياضيات كوجهين لعملة واحدة ، فهي مطلقة في قوانينها الأساسية التي لا تتغير ، لكنها نسبية في تطبيقاتها وتطورها مع الزمن ، كما الرياضيات هي نتاج العقل البشري ، لكنها تتجاوز الحدود البشرية لتصبح أداة لفهم الكون بأكمله ، و هذا التوازن بين المطلق و النسبي هو ما يجعل الرياضيات مدهشة ومستمرة في تحدي عقولنا .


أحدث أقدم

إعلان

إعلان

نموذج الاتصال