• مقال حول قيمة الفرضية :
• طرح المشكلة :
إنّ العلم كان ولا يزال شريان الحياة الفكرية للبشرية، فهو ليس مجرد أداة لكشف الحقائق بل وسيلة لفهم عميق للعالم المحيط بنا ، و من بين المناهج التي أسهمت في تعزيز هذا الفهم يأتي المنهج التجريبي، الذي يُعدّ أحد أهم أعمدة البحث العلمي الحديث ، غير أنّ الحديث عن هذا المنهج لا يمكن أن يكتمل دون الغوص في جوهره، أي الفرضية ، فالفرضية تمثل البوابة التي يدخل منها الباحث إلى عالم التجريب، وهي نقطة الانطلاق لكل بحث علمي تجريبي ، و لقد أثار هذا الموضوع جدلًا واسعًا بين الفلاسفة والعلماء على مرّ العصور ، إذ انقسمت الآراء حول قيمة الفرضية ودورها في المنهج التجريبي ، فهناك من يراها عنصرًا محوريًا وأساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه ، بينما اعتبرها آخرون خطوة غير ضرورية ، وأكدوا أن العلم يمكن أن يتقدم بدونها ، و هذا الانقسام يعكس رؤيتين متباينتين تمامًا ، الأولى تدافع عن أهمية الفرضية وتعتبرها العقل المفكر للبحث العلمي، والثانية ترى أن الملاحظة والتجربة كافيتان لتحقيق الأهداف العلمية ، و إزاء هذا التضارب، يمكننا أن نتساءل ، هل الفرضية ركيزة لا غنى عنها في المنهج التجريبي؟ ، أم أنها مجرد تفصيل يمكن تجاوزه في رحلة البحث العلمي؟ ، او هل الفرضية ضرورة حتمية في المنهج التجريبي؟ ، أم أنها مجرد عنصر يمكن الاستغناء عنه ؟
• محاولة حل المشكلة :
• الموقف الأول :
ينصر هذا الموقف فكرة ان الفرضية قد لعبت دورًا مركزيًا في تاريخ العلم، وبرز العديد من الفلاسفة والعلماء الذين أكدوا على ضرورتها ، و من أبرز هؤلاء فرانسيس بيكون، رائد المنهج التجريبي، الذي شدد على أن الفرضية هي الأداة التي يستخدمها الباحث لتوجيه التجربة وتحليل الظواهر ، إذ يرى بيكون أن العقل البشري بحاجة إلى تصور مبدئي يساعده على استيعاب الكم الهائل من البيانات الملاحظية ، و هنا تأتي الفرضية كمرشد يُضيء الطريق أمام الباحثين ، يقول العالم الفرنسي كلود برنارد : "إن الفرضية بمثابة الشعلة التي تضيء دروب التجريب" ، و برنارد يعتقد أن الفرضية ليست مجرد تخمين عشوائي بل هي تصور علمي نابع من ملاحظات دقيقة ، فبدونها، يصبح الباحث كمن يسير في الظلام، غير قادر على تحديد الاتجاه ، إذ تساعد الفرضية على صياغة الأسئلة البحثية بشكل محدد، مما يجعل التجريب أكثر تركيزًا ، و بدونها، قد يتحول البحث إلى عملية عشوائية ، و الفرضية تمثل التنبؤ العلمي الذي يمكن اختباره ، فعلى سبيل المثال، عندما افترض نيوتن أن الجاذبية هي القوة التي تجعل الأجسام تسقط، تمكن من تطوير قوانين رياضية دقيقة بناءً على هذه الفرضية ، و الفرضيات الجديدة تدفع العلماء إلى التفكير بطرق مبتكرة ، فمثلًا، فرضية النسبية لأينشتاين غيرت مسار الفيزياء التقليدية وفتحت آفاقًا جديدة للبحث العلمي ، و كانت فرضية الانتخاب الطبيعي التي قدمها داروين أساسًا لتفسير تطور الأنواع ، ما أدى إلى تقدم هائل في فهم علم الأحياء ، و الفرضيات حول أسباب الأمراض تساعد في توجيه التجارب لتطوير العلاجات ، فمثلًا، فرضية أن البكتيريا هي سبب قرحة المعدة أدت إلى تطوير علاجات فعالة ، و إذا اعتبرنا البحث العلمي سفينة في بحر المعرفة، فإن الفرضية هي البوصلة التي توجه السفينة نحو وجهتها ، فبدونها، قد تضل السفينة طريقها في بحر مليء بالاحتمالات.
• النقد :
على الرغم من القوة التي يقدمها هذا الموقف، إلا أن هناك انتقادات توجه له من بينها التحيز العلمي ، إذ يرى البعض أن الفرضيات قد تؤدي إلى تحيز الباحث نحو نتائج معينة، مما يؤثر على حيادية البحث ، و إذا كانت الفرضية غير صحيحة، قد يُهدر الوقت والجهد في محاولة إثباتها بدلًا من البحث عن تفسيرات أخرى ، و في بعض المجالات العلمية، يمكن أن تكون الفرضيات معقدة للغاية، مما يجعل اختبارها أمرًا صعبًا ومكلفًا ، و في بعض الأحيان، يركز العلماء على فرضياتهم لدرجة أنهم يتجاهلون بيانات أو ملاحظات قد تكون أكثر أهمية.
• الموقف الثاني :
على النقيض من الموقف الأول، ظهر تيار فلسفي وعلمي ينكر ضرورة الفرضية في البحث التجريبي ، إذ يرى أنصار هذا الموقف أن المنهج التجريبي يقوم أساسًا على الملاحظة الدقيقة والتجريب ، دون الحاجة إلى افتراضات مبدئية قد تؤدي إلى تحيز أو تقييد التفكير العلمي ، ومن أبرز رواد هذا الاتجاه أوغست كونت، مؤسس الفلسفة الوضعية، الذي أكد أن العلم يجب أن يقتصر على وصف الظواهر وربطها، بدلًا من تفسيرها اعتمادًا على فرضيات قد تكون غير قابلة للتحقق ، يقول أوغست كونت: "العلم يتقدم بالملاحظة المنظمة، وليس بالتخمين" ، فالتجريب المباشر والملاحظة هما أساس التقدم العلمي، و الفرضيات قد تشتت انتباه الباحث أو تقوده إلى استنتاجات غير دقيقة ، ومن بين أحد دعاة التجريب الخالص ، العالم الفيزيائي إرنست ماخ، إذ كان يرى أن الفرضيات ليست سوى عائق أمام اكتشاف الحقائق، مؤكدًا أن التجريب يمكن أن يحقق النتائج المرجوة بشكل مباشر دون الحاجة إلى تخمينات مسبقة ، و غياب الفرضية يضمن عدم تأثر الباحث بتصورات مسبقة ، ما يجعل نتائجه أكثر موضوعية ، و عندما يعتمد الباحث فقط على الملاحظة والتجريب، يكون أقل عرضة للوقوع في فخ محاولة إثبات صحة فرضياته ، و يتيح عدم وجود فرضية للباحث التعامل مع البيانات كما هي، بدلًا من محاولة تطويعها لتناسب فرضياته ، و في علم الجينوم، يعتمد العلماء بشكل كبير على تحليل البيانات الكبيرة (Big Data) دون فرضيات مسبقة، ما أتاح اكتشافات غير متوقعة حول الجينات المسببة للأمراض ، كما أن الكثير من الاكتشافات في الفيزياء الحديثة جاءت نتيجة للتجريب المباشر، مثل اكتشاف الإلكترون بواسطة طومسون، الذي اعتمد على ملاحظة نتائج التجارب دون تصور فرضي مسبق .
• النقد :
رغم القوة التي يبدو عليها هذا الموقف، إلا أن هناك نقاط ضعف واضحة فيه ،من بينها غياب التوجيه ، فبدون الفرضية ، قد يصبح البحث العلمي بلا هدف واضح، مما يؤدي إلى إهدار الموارد والوقت ، و في بعض الحالات، قد تكون الظواهر العلمية معقدة لدرجة تستدعي وجود فرضية لتبسيطها وفهمها ، كما أن البحث القائم فقط على الملاحظة والتجريب قد يكون أبطأ من البحث الموجه بفرضية، خاصة في المجالات التي تتطلب تحليلًا نظريًا ، و غياب الفرضية يجعل من الصعب فهم الروابط السببية بين الظواهر، وهو أحد أهداف العلم الرئيسية .
• التركيب :
بعد تحليل الموقفين السابقين، يمكن القول إن لكل منهما وجاهته وحدوده ، فالفرضية تمثل أداة فعالة لتنظيم البحث العلمي وتوجيهه ، لكنها ليست دائمًا ضرورية في جميع المجالات ، إذ يمكن للباحث الجمع بين نهج التجريبي قائم على الملاحظة الدقيقة وبين استخدام الفرضيات في حالات معينة لتوضيح الظواهر الأكثر تعقيدًا ، فمثلًا، في مجال الفيزياء النظرية، تُعتبر الفرضيات أداة حيوية لتوجيه التجريب وفهم الظواهر المعقدة ، أما في مجالات تحليل البيانات الكبيرة ، فإن التجريب المباشر قد يكون أكثر فعالية بسبب عدم وجود تصور مسبق.
• حل المشكلة :
في نهاية المطاف ، الفرضية و المنهج التجريبي وجهان لعملة واحدة، يكملان بعضهما البعض ، لا يمكن إنكار أهمية الفرضية كأداة عقلية تساعد في توجيه البحث وفهم الظواهر، لكنها ليست دائمًا عنصرًا حتميًا ، و يعتمد اختيار استخدام الفرضية أو تجاوزها على طبيعة المشكلة العلمية التي يواجهها الباحث ، إن العلم كيان حي يتطلب مرونة في التفكير، فلا ينبغي تقييده بنهج واحد ، فالفرضية، كغيرها من أدوات البحث العلمي، تظل وسيلة لخدمة الهدف الأكبر ، فهم العالم و تفسيره لخدمة البشرية.