مقال الحرية و المسؤولية _ هل الإنسان مسؤول لأنه حر أم حر لأنه مسؤول؟

• مقال الحرية و المسؤولية :

_ هل الإنسان مسؤول لأنه حر أم حر لأنه مسؤول؟

هل الإنسان مسؤول لانه حر ام حر لانه مسؤول


• طرح المشكلة :

منذ الأزل، ظل الإنسان محور التساؤلات الفلسفية الكبرى، فهو الكائن الذي يتميز بوعيه لذاته، وقدرته على اتخاذ القرارات، وتحمل تبعاتها، ومع ذلك، فإن هذه القدرة على الاختيار لم تكن يوماً خالية من الإشكالات الفكرية، حيث طرحت تساؤلات عميقة حول الحرية والمسؤولية، و لقد انقسم الفلاسفة والمفكرون حول هذه القضية إلى موقفين متعارضين، حيث يرى البعض أن الحرية هي الأساس الذي ينبع منه مفهوم المسؤولية، فالإنسان، وفقاً لهذا الرأي، كائن حر بطبيعته، وهذه الحرية هي التي تمنحه القدرة على تحمل المسؤولية عن أفعاله، في حين يرى آخرون أن المسؤولية هي التي تمنح الإنسان حريته، فهي التي تجعله يتجاوز ذاته ويعي أفعاله، وبين هذين الموقفين المتناقضين، يبرز سؤال محوري ، هل الإنسان مسؤول لأنه حر أم حر لأنه مسؤول؟ ، او هل الإنسان حر بطبيعته وبالتالي يتحمل المسؤولية كنتيجة لهذه الحرية؟ أم أن المسؤولية هي التي تفرض عليه أن يكون حراً؟ .

• محاولة حل المشكلة :

   • الموقف الاول :

 يتبنى انصار هذا الموقف من الفلاسفة و المفكرين الرأي القائل بأن الإنسان مسؤول لأنه حر ، إذ تنبع هذه الفكرة من الاعتقاد بأن الحرية تمنح الفرد القدرة على اتخاذ القرار وامتلاك الحق في اختيار مصيره ، و بحسب الفيلسوف الأمريكي ويليم جيمس : "إن تشكيل الأفكار هو تحديد للحياة وكيفية عيشها"، وهذا يشير إلى أن حرية الإرادة تتيح لنا تشكيل مساراتنا باستقلالية ، لذا، فإن المسؤولية المرتبطة بالقرارات والأفعال تنشأ بشكل طبيعي من هذه الحرية ،و يمكن توضيح هذا المفهوم بمثال فهم الأفعال ، فعندما يقوم شخص ما بعمل معين، فإن حرية اختياره تضعه في موضع المسؤولية ، فعلى سبيل المثال، إذا اختار شخص ما العمل على مشروع معين وتجاهل التزاماته الأخرى، فإنه يكون مسؤولًا عن النتائج المترتبة على اختياره ، و في هذا الصدد، يتم النظر إلى الحرية كأنها نعمة تستدعي الوعي بالمسؤولية، ويؤكد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط قائلا  :"المسؤولية تتأصل في وجود حرية حقيقية"، وهو ما يعكس أهمية الصنعية الإرادية في وجود الإنسان ،و تمثل الحرية بالنسبة للمؤيدين لهذا الموقف الأرضية التي يقوم عليها مفهوم الأخلاق، حيث تُعَد الاختيارات جزءًا لا يتجزأ من تطور الشخصية والهوية ، و يمكن القول إن البشر يتحملون العواقب والخيارات السيئة وكذلك الجيدة بسبب هذه الحرية ، و يبرز هذا التداخل بين الحريتين الفردية والأخلاقية، حيث يشجع الفلاسفة مثل جون ستيوارت ميل على تعزيز هذه الحرية، مع ضرورة احترام الخيار العادل والمبني على القيم الإنسانية المشتركة.

   • النقد :

من أبرز الانتقادات الموجهة لهذا الموقف أنه يُفرط في تقدير قدرة الأفراد على الاختيار بحرية، متجاهلًا السياقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تؤثر في قراراتهم ، و يعبر الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو عن هذا الفكر من خلال قوله : "الحرية ليست حالة طبيعية، بل هي تشكيل اجتماعي"، علاوة على ذلك، يمكن القول إن تأكيد المسؤولية دون الاعتراف بالعوامل المؤثرة يمكن أن يؤدي إلى إلقاء اللوم على الأفراد بشكل غير عادل ، فإذا كان الفرد محاطًا بظروف تؤثر في خياراته، فلا يمكن تحميله كامل المسؤولية، ما ينفي فكرة الحرية المطلقة التي تدّعيها الفلسفة ، و في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة تقييم مفهوم الحرية والموازنة بين الحقائق الموضوعية والحكمة الذاتية في مختلف السياقات.

   • الموقف الثاني :

على النقيض من ذلك، يمثل بعض الفلاسفة وجهة نظر تجادل بأن الإنسان حر لأنه مسؤول ، و في هذا يرى مفكرون كالفيلسوف السلوكي بانكس أن "المسؤولية ضرورية لتطوير حرية حقيقية تعبر عن تنمية الكينونة"، وهو ما يعني أن نسبة المساءلة عن الأفعال هي ما يمنح الشخص حريته الفعلية ، و إن استمرارية المسؤولية المرتبطة بالقرارات والأفعال تمنح الأفراد حرية الإبداع والابتكار، لأنها فرضية تتطلب انفتاحًا على التجربة والخبرة ، فإذا كان الإنسان مطالبًا بتقديم التفسير لأفعاله، فإنه يُصنّف ككائن مسؤول ومن ثم يمكنه أن يدعي أنه يتمتع بالحرية الحقيقية ، فعلى سبيل المثال، ينظر إلى الأفراد الذين يجعلون اختيارات مدروسة وكيفية التأثير في المجتمع من خلال هذه الاختيارات على أنهم يمثلون دليلاً على الحرية التي تنبثق من المسؤولية ، فكلما زاد شعور الأفراد بالمسؤولية، زادت لديهم القدرة على المشاركة في الحياة الاجتماعية، ما ينمي قدرتهم على الابتكار والتغير ، و يساعد هذا المنظور في تعزيز فكرة أن الاستجابة للمسؤوليات هي عنصر أساسي في تشكيل الهوية الإنسانية ، فالفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، في تقاريره حول حياة الإنسان الطبيعية، يشير قائلا : "في حالة غياب المسؤولية، ينعدم الأمن وتختفي الحرية"، موضحًا كيف أن الربط بين المسؤولية والحرية يمكن أن يؤدي إلى تحقيق الفائدة العامة ، لذا، يمكن اعتبار المسؤولية كضمانة لهذه الحرية.

   • النقد :

إن الرؤية التي تربط المجموعة إلى المسؤولية تعاني من بعض النقاط الضعفية أيضًا ، فمثلاً، يمكن أن يظهر تناقض كبير بين المفهوم المطروح للحرية وبين الأعباء الواقعية للمسؤولية التي يمكن أن تضعف خيارات الأفراد، ما قد يفضي إلى شعور بالتقييد بدلاً من التحرر ، بالإضافة إلى ذلك، تتطلب هذه الفلسفة من الأفراد أن يتحملوا مسؤوليات قد لا تكون عادلة، وهذا يعكس قلقًا حول مسألة العدالة وحقوق الإنسان ، كما يمكن اعتبار أن التركيز على المسؤولية قد يؤدي إلى ممارسات تميز ضد الأفراد الذين يعانون من ظروف هيكلية مثل الفقر أو التمييز، ما يجعل من الصعب عليهم أن يتحملوا نفس القدر من المسؤولية كما يفعل الآخرون ، لذا، يعتبر انتقاد هذا الموقف ملحًا، خاصة إذا تركنا هذا التوتر دون توازن، ما يؤثر على الحرية الحقيقية للإنسان.

• التركيب :

إن العلاقة بين الحرية والمسؤولية تتطلب توافقًا وليس تنافسًا، حيث يمكن رؤية الحرية كفضاء يُعزز روح الابتكار والإبداع، بينما تعتبر المسؤولية كصمام أمان يضمن التوجيه والاهتمام بالقيم الإنسانية ، و هذا التوافق ليس سهل التحقيق ولكنه يتطلب تعهدًا جماعيًا للفرد والمجتمع ، فبينما تمنح الحرية الفرد القدرة على اتخاذ قراراته، توفر المسؤولية إطارًا ثقافيًا وأخلاقيًا يحافظ على توازن العلاقات الإنسانية ،و يتأسس هذا التوازن على الوعي بأهمية السياقات المختلفة، حيث يجب أن تُعطى الحرية المساحة اللازمة للتجلي، بينما تبقى المسؤولية هي البوصلة التي توضح الطريق ، و إذا تمكنا من اعتبار المسؤولية كجزء لا يتجزأ من الحرية، يصبح من الممكن إضافة الأبعاد الإنسانية إلى دیانة وجودنا، وهذا يساهم في بناء مجتمع يعترف بالجوانب المعقدة والثرية لتجربة الحياة.

• حل المشكلة :

في الختام، يبين هذه الجدل العميق بين الحرية والمسؤولية أن الإنسان هو كائن معقد يحتاج إلى فهم واسع وطويل الأمد لدوافعه وأفعاله ، و هذه المزاوجة بين الحرية والمسؤولية يجب أن تُعتبر مسؤولية جماعية تحتاج إلى التأمل الفكري والإدراك الذاتي ، و إن تعزيز الإدراك بأهمية كل منهما في صياغة الوجود الإنساني يمكن أن يؤدي إلى تطور إيجابي في المجتمعات ، و تظل مسألة الحرية والمسؤولية جزءًا حيويًا من الفكر الفلسفي المعاصر، ما يحتم علينا البحث والتفكير بعمق حول طبيعتنا البشرية ،  لذا، في سعينا لفهم التوترات والتوازنات، يمكننا الاقتراب من الحقيقة العميقة التي تجمع بين الحرية والمسؤولية في عالم متغير ومتسارع، حيث تصبح كل واحدة منهما ترسًا في ماكينة الحياة الإنسانية.

أحدث أقدم

إعلان

إعلان

نموذج الاتصال