• مقالة حول النسيان :
_ هل النسيان طبيعي أم مرضي ؟
_ هل ظاهرة النسيان سلبية ام ايجابية ؟
_ هل النسيان سلبي ام ايجابي ؟
• طرح المشكلة :
النسيان ، تلك الظاهرة التي ترافق الإنسان منذ الأزل، إذ تبدو في ظاهرها بسيطة أو حتى عادية، لكنها في جوهرها تحمل أبعادًا فلسفية ونفسية عميقة، فهي ليست مجرد فقدان للمعلومات أو العجز عن استرجاعها، بل هي ظاهرة معقدة تتشابك فيها الطبيعة البشرية مع العمليات العقلية والبيولوجية، وقد أثارت هذه الظاهرة تساؤلات عميقة لدى الفلاسفة والمفكرين حول حقيقتها وأسبابها، و لقد انقسمت الآراء حول هذه المسألة إلى موقفين متعارضين، حيث يرى البعض أن النسيان ظاهرة طبيعية، بل وضرورية للحفاظ على التوازن النفسي والعقلي، بينما يعتقد آخرون أنه مرض يعكس اضطرابًا في الذاكرة أو خللًا في الوظائف العقلية، و هذا التعارض بين الموقفين أفرز نقاشًا فلسفيًا عميقًا، وأدى إلى ظهور سؤال محوري: هل يمكن اعتبار النسيان جزءًا من الطبيعة البشرية ووظيفة ضرورية للعقل؟ أم أنه حالة مرضية تعكس خللًا في النظام النفسي والعقلي للإنسان؟ ، او هل النسيان ظاهرة طبيعية تعبر عن وظيفة ضرورية للعقل البشري؟ أم أنه مرض يعكس خللًا في الوظائف العقلية والذاكرة؟
• محاولة حل المشكلة :
• الموقف الأول :
يرى أنصار هذا الموقف أن النسيان ليس مجرد خلل في الذاكرة أو عجز عن استرجاع المعلومات ، بل هو ظاهرة طبيعية وضرورية للحفاظ على التوازن النفسي و العقلي ، حيث يعتبرون أن العقل البشري ليس مجرد آلة لتخزين المعلومات، بل هو نظام ديناميكي يحتاج إلى التخلص من المعلومات غير الضرورية أو المؤلمة من أجل التركيز على ما هو أهم ، و هذا الرأي يجد جذوره في الفلسفة الإغريقية، حيث يقول أرسطو: "إن النسيان هو جزء من طبيعة العقل، فهو يتيح لنا التحرر من عبء الذكريات الزائدة" ، و من هذا المنطلق، يعتبر أنصار هذا الموقف أن النسيان يلعب دورًا أساسيًا في الحفاظ على الصحة النفسية والعقلية، فهو يساعد الإنسان على تجاوز التجارب المؤلمة أو الصدمات النفسية ، مما يتيح له المضي قدمًا في حياته دون أن يظل أسيرًا للماضي، فعلى سبيل المثال، عندما ينسى الإنسان تجربة مؤلمة مثل فقدان شخص عزيز، فإنه يتمكن من التكيف مع الواقع الجديد واستعادة توازنه النفسي،و هذا الدور الإيجابي للنسيان يجعل منه ظاهرة طبيعية وضرورية للحياة الإنسانية ، إضافة إلى ذلك، يرى أنصار هذا الموقف أن النسيان يساعد العقل على تنظيم المعلومات وترتيبها، حيث يقول عالم النفس سيغموند فرويد: "إن النسيان ليس مجرد عجز عن التذكر، بل هو عملية نشطة يقوم بها العقل للتخلص من المعلومات غير الضرورية"، و هذا يعني أن النسيان ليس خللًا في الذاكرة، بل هو وظيفة طبيعية تساعد العقل على التركيز على المعلومات الأكثر أهمية ، كما أن الدراسات الحديثة في علم الأعصاب تدعم هذا الرأي، حيث تشير إلى أن النسيان يلعب دورًا أساسيًا في عملية التعلم والتكيف، فعلى سبيل المثال، تشير الدراسات إلى أن العقل يقوم بحذف المعلومات غير الضرورية أثناء النوم من أجل تحسين كفاءة الذاكرة ، و هذا يعني أن النسيان ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو جزء أساسي من عمل الدماغ ، علاوة على ذلك، يمكننا أن نلاحظ أن النسيان يلعب دورًا إيجابيًا في الحياة اليومية، فهو يساعد الإنسان على التكيف مع التغيرات المستمرة في البيئة، فعلى سبيل المثال، عندما ينسى الإنسان بعض التفاصيل غير المهمة، فإنه يتمكن من التركيز على المهام الأكثر أهمية، و هذا الدور الإيجابي للنسيان يجعل منه ظاهرة طبيعية وضرورية للحياة الإنسانية.
• النقد :
على الرغم من قوة الحجج التي يقدمها أنصار هذا الموقف، إلا أنه يواجه العديد من الانتقادات، حيث يرى النقاد أن القول بأن النسيان ظاهرة طبيعية وضرورية يتجاهل الجانب السلبي للنسيان، فهناك حالات يكون فيها النسيان عائقًا أمام الإنسان، مثل نسيان المعلومات المهمة أو الذكريات التي يحتاجها الإنسان في حياته اليومية، فعلى سبيل المثال، عندما ينسى الإنسان موعدًا مهمًا أو اسم شخص يعرفه، فإن ذلك قد يسبب له الإحراج أو المشاكل ، كما أن هذا الموقف يتجاهل الحالات المرضية للنسيان، مثل مرض الزهايمر أو اضطرابات الذاكرة الأخرى، حيث يكون النسيان في هذه الحالات علامة على خلل في النظام العصبي أو العقلي، و على سبيل المثال، في حالة مرض الزهايمر، يفقد الإنسان القدرة على تذكر الأحداث أو الأشخاص، مما يؤثر بشكل كبير على حياته اليومية،و هذا الجانب المرضي للنسيان يجعل من الصعب اعتباره ظاهرة طبيعية تمامًا ، إضافة إلى ذلك، يرى النقاد أن القول بأن النسيان ظاهرة طبيعية يتجاهل الدور الكبير الذي تلعبه العوامل الخارجية في حدوث النسيان، مثل التوتر أو الإجهاد أو قلة النوم، حيث تشير الدراسات إلى أن هذه العوامل تؤثر بشكل كبير على الذاكرة وتزيد من احتمالية النسيان، و هذا يعني أن النسيان ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو نتيجة لتأثير العوامل الخارجية على العقل ، كما أن هذا الموقف يتجاهل الجانب الثقافي والاجتماعي للنسيان، حيث يمكن أن يكون النسيان نتيجة للتغيرات الثقافية أو الاجتماعية، على سبيل المثال، عندما ينسى الإنسان لغة معينة أو تقاليد معينة بسبب التغيرات الثقافية، فإن ذلك يعكس تأثير البيئة الاجتماعية على الذاكرة، و هذا الجانب الثقافي للنسيان يجعل من الصعب اعتباره ظاهرة طبيعية تماما .
• الموقف الثاني :
على النقيض من الموقف الأول، يرى أنصار هذا الاتجاه أن النسيان ليس ظاهرة طبيعية أو وظيفة ضرورية للعقل، بل هو حالة مرضية تعكس خللًا في النظام النفسي أو العصبي للإنسان، حيث يعتبرون أن الذاكرة هي إحدى أهم القدرات العقلية التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، وأي اضطراب في هذه القدرة، بما في ذلك النسيان، يجب أن يُنظر إليه على أنه مشكلة تحتاج إلى تفسير وعلاج، و هذا الرأي يجد جذوره في الفلسفة الحديثة، حيث يقول جون لوك: "الذاكرة هي أساس الهوية الشخصية، وأي خلل فيها يهدد استمرارية الذات" ، و من هذا المنطلق، يرى أنصار هذا الموقف أن النسيان يعكس ضعفًا أو خللًا في الوظائف العقلية، حيث يعتبرون أن العقل البشري مصمم لتخزين المعلومات واسترجاعها عند الحاجة، وأي عجز عن القيام بهذه الوظيفة يعكس وجود مشكلة، فعلى سبيل المثال، عندما ينسى الإنسان معلومات مهمة مثل الأسماء أو التواريخ أو الأحداث، فإن ذلك قد يكون علامة على وجود خلل في النظام العصبي أو النفسي ،و يدعم هذا الموقف أيضًا بعض الدراسات الطبية التي تشير إلى أن النسيان يمكن أن يكون علامة على أمراض خطيرة مثل الزهايمر أو اضطرابات الذاكرة الأخرى، حيث تشير هذه الدراسات إلى أن النسيان في هذه الحالات ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو نتيجة لخلل في الدماغ أو الجهاز العصبي، فعلى سبيل المثال، في حالة مرض الزهايمر، يفقد الإنسان القدرة على تذكر الأحداث أو الأشخاص، مما يؤثر بشكل كبير على حياته اليومية، و هذا الجانب المرضي للنسيان يجعل من الصعب اعتباره ظاهرة طبيعية ، إضافة إلى ذلك، يرى أنصار هذا الموقف أن النسيان يمكن أن يكون نتيجة للتوتر أو الإجهاد أو قلة النوم، حيث تشير الدراسات إلى أن هذه العوامل تؤثر بشكل كبير على الذاكرة وتزيد من احتمالية النسيان، فعلى سبيل المثال، عندما يتعرض الإنسان لضغط نفسي كبير، فإنه قد ينسى تفاصيل مهمة أو حتى أحداثًا كاملة، و هذا يعني أن النسيان ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو نتيجة لتأثير العوامل الخارجية على العقل ، كما أن هذا الموقف يجد دعمًا في الفلسفة النفسية، حيث يقول سيغموند فرويد: "إن النسيان يمكن أن يكون نتيجة للصراعات النفسية الداخلية أو الرغبة في قمع الذكريات المؤلمة"، و هذا يعني أن النسيان ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو نتيجة للصراعات النفسية التي تؤثر على العقل، فعندما ينسى الإنسان تجربة مؤلمة أو صدمة نفسية، فإن ذلك قد يكون نتيجة لرغبته في قمع هذه الذكريات ، ما يعكس وجود صراع نفسي داخلي ، علاوة على ذلك، يرى أنصار هذا الموقف أن النسيان يمكن أن يكون نتيجة للتغيرات الثقافية أو الاجتماعية، حيث يمكن أن يكون النسيان نتيجة لفقدان الاتصال بالجذور الثقافية أو التقاليد الاجتماعية، فعلى سبيل المثال، عندما ينسى الإنسان لغة معينة أو تقاليد معينة بسبب التغيرات الثقافية، فإن ذلك يعكس تأثير البيئة الاجتماعية على الذاكرة، و هذا الجانب الثقافي للنسيان يجعل من الصعب اعتباره ظاهرة طبيعية تمامًا.
• النقد :
على الرغم من قوة الحجج التي يقدمها أنصار هذا الموقف، إلا أنه يواجه العديد من الانتقادات، حيث يرى النقاد أن القول بأن النسيان ظاهرة مرضية يتجاهل الجانب الإيجابي للنسيان، فهناك حالات يكون فيها النسيان ضروريًا للحفاظ على التوازن النفسي والعقلي، فعلى سبيل المثال، عندما ينسى الإنسان تجربة مؤلمة أو صدمة نفسية، فإنه يتمكن من التكيف مع الواقع الجديد واستعادة توازنه النفسي، وهذا الدور الإيجابي للنسيان يجعل من الصعب اعتباره ظاهرة مرضية تمامًا ، كما أن هذا الموقف يتجاهل الحالات التي يكون فيها النسيان جزءًا من عملية التعلم والتكيف، حيث تشير الدراسات إلى أن العقل يقوم بحذف المعلومات غير الضرورية أثناء النوم من أجل تحسين كفاءة الذاكرة،و هذا يعني أن النسيان ليس مجرد ظاهرة مرضية، بل هو جزء أساسي من عمل الدماغ، فعلى سبيل المثال، عندما ينسى الإنسان بعض التفاصيل غير المهمة، فإنه يتمكن من التركيز على المهام الأكثر أهمية، و هذا الدور الإيجابي للنسيان يجعل من الصعب اعتباره ظاهرة مرضية تمامًا ، إضافة إلى ذلك، يرى النقاد أن القول بأن النسيان ظاهرة مرضية يتجاهل الدور الكبير الذي يلعبه العقل البشري في تنظيم المعلومات وترتيبها ، إذ أن النسيان ليس خللًا في الذاكرة، بل هو وظيفة طبيعية تساعد العقل على التركيز على المعلومات الأكثر أهمية ، كما أن هذا الموقف يتجاهل الجانب الثقافي والاجتماعي للنسيان، حيث يمكن أن يكون النسيان نتيجة للتغيرات الثقافية أو الاجتماعية.
• التركيب :
عند النظر إلى الموقفين المتعارضين، يمكننا أن نرى أن كليهما يقدم رؤى مهمة حول طبيعة النسيان ، فمن جهة، يعتبر النسيان ظاهرة طبيعية وضرورية للحفاظ على التوازن النفسي والعقلي، ومن جهة أخرى، يمكن أن يكون النسيان علامة على خلل في النظام العصبي أو النفسي، لذلك، يمكننا أن نقول إن النسيان ليس ظاهرة طبيعية تمامًا ولا مرضية تمامًا، بل هو ظاهرة متعددة الأبعاد تعكس تفاعل العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية.
• حل المشكلة :
في النهاية، يمكننا أن نقول أن النسيان هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، فهو ليس مجرد ظاهرة طبيعية أو مرضية، بل هو عملية معقدة تعكس تفاعل العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، لذلك، يجب أن ننظر إلى النسيان من منظور شامل يأخذ في الاعتبار جميع هذه العوامل، بدلاً من اعتباره ظاهرة طبيعية أو مرضية فقط، و هذا الفهم الشامل للنسيان يمكن أن يساعدنا على التعامل معه بشكل أفضل وتحقيق التوازن في حياتنا .