مقالة حول الدال والمدلول _ هل العلاقة بين الدال والمدلول ضرورية أم اعتباطية؟

إعلان

• مقالة حول الدال والمدلول :

_ هل العلاقة بين الدال والمدلول ضرورية أم اعتباطية؟

ها العلاقة بين الدال والمدلول ضرورية ام اعتباطية


• طرح المشكلة :

منذ الأزل ، كانت اللغة هي الوسيلة الأبرز التي استخدمها الإنسان للتعبير عن أفكاره ومشاعره، فهي الجسر الذي يربط بين الذات والآخر، وبين الفكر والواقع ، وبين الدال والمدلول، و حيث ان العلاقة بين الدال والمدلول لم تكن يومًا محل اتفاق بين الفلاسفة والمفكرين، بل كانت دائمًا موضوعًا للجدل والنقاش، حيث انقسمت الآراء بين من يرى أن العلاقة بينهما ضرورية، وبين من يراها اعتباطية ، وكان هذا التساؤل محورًا لصراع فكري امتد عبر العصور، حيث سعى كل موقف إلى تقديم حججه وأدلته لإثبات رؤيته، للإجابة عن السؤال ، : هل العلاقة بين الدال والمدلول علاقة ضرورية تنبع من طبيعة الأشياء ذاتها، أم أنها علاقة اعتباطية تُفرض من خلال الاتفاق الاجتماعي؟ 

• محاولة حل المشكلة :

   • الموقف الأول :

يرى أنصار هذا الموقف أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة ضرورية، أي أنها تنبع من طبيعة الأشياء ذاتها، وليست مجرد اتفاق اعتباطي بين البشر، ويستند هذا الرأي إلى فكرة أن لكل شيء في العالم جوهرًا أو ماهية تعبر عنها اللغة بشكل طبيعي، وبالتالي فإن الكلمة أو الرمز يرتبط بالمعنى أو الشيء ارتباطًا جوهريًا لا يمكن فصله، وقد عبر الفيلسوف أفلاطون عن هذا الرأي في حواراته، حيث قال: "إن الأسماء ليست مجرد علامات اعتباطية، بل هي انعكاس لجوهر الأشياء"، و بالنسبة لأفلاطون، اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي وسيلة للكشف عن الحقائق الكامنة في العالم ، ومن الأمثلة التي تدعم هذا الرأي، نجد أن بعض الكلمات في اللغات المختلفة تحمل دلالات صوتية تعكس طبيعة الأشياء التي تشير إليها، مثل كلمة (همهمة) التي تعبر عن صوت النحل، أو كلمة (خرير) التي تعبر عن صوت تدفق الماء، و هذا يظهر أن هناك علاقة طبيعية بين الصوت والمعنى، ما يعزز فكرة الضرورة في العلاقة بين الدال والمدلول ، علاوة على ذلك، يرى أنصار هذا الموقف أن العلاقة الضرورية بين الدال والمدلول تُسهم في استقرار اللغة وفهمها، فإذا كانت العلاقة اعتباطية بالكامل، فإن ذلك سيؤدي إلى فوضى لغوية تجعل من الصعب على البشر التواصل وفهم بعضهم البعض، وبالتالي فإن وجود علاقة ضرورية بين الدال والمدلول يُعتبر شرطًا أساسيًا لاستمرار اللغة وديمومتها ، ومن بين الفلاسفة الذين تبنوا هذا الرأي أيضًا، نجد الفيلسوف الألماني يوهان غوتفريد هيردر، الذي أكد أن اللغة تنبع من الطبيعة البشرية ذاتها، حيث قال: "إن اللغة ليست اختراعًا بشريًا، بل هي تعبير طبيعي عن الفكر الإنساني"، و هذا الرأي يعكس الاعتقاد بأن العلاقة بين الدال والمدلول ليست مجرد اتفاق اجتماعي، بل هي جزء من طبيعة الإنسان وعلاقته بالعالم.

   • النقد :

على الرغم من قوة الحجج التي يقدمها أنصار هذا الموقف ، إلا أنه يواجه العديد من الانتقادات، أولاً ، يُعتبر القول بأن العلاقة بين الدال والمدلول ضرورية تعميمًا قد لا ينطبق على جميع الحالات، فهناك العديد من الكلمات في اللغات المختلفة لا تحمل أي علاقة طبيعية مع مدلولاتها، بل تعتمد على الاتفاق الاجتماعي والثقافي، على سبيل المثال، كلمة (نهر) في اللغة العربية لا تحمل أي دلالة طبيعية على الشيء الذي تشير إليه، بل هي مجرد رمز تم الاتفاق عليه بين الناطقين بهذه اللغة ، و ثانيًا، يُعتبر هذا الموقف غير قادر على تفسير التنوع اللغوي الكبير بين الثقافات والمجتمعات، فإذا كانت العلاقة بين الدال والمدلول ضرورية، فلماذا تختلف الكلمات التي تشير إلى نفس الشيء من لغة إلى أخرى؟ ،هذا التنوع يُظهر أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست بالضرورة طبيعية، بل قد تكون اعتباطية في كثير من الأحيان ، و أخيرًا، يُنتقد هذا الموقف لأنه يُغفل الدور الكبير الذي يلعبه الاتفاق الاجتماعي في تشكيل اللغة، فاللغة ليست مجرد انعكاس للطبيعة، بل هي نتاج تفاعل اجتماعي وثقافي بين البشر، وبالتالي فإن القول بوجود علاقة ضرورية بين الدال والمدلول يُعتبر تبسيطًا مفرطًا لطبيعة اللغة وتعقيداتها.

   • الموقف الثاني :

على النقيض من الموقف الأول، يرى أنصار هذا الرأي أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية ، أي أنها لا تنبع من طبيعة الأشياء ذاتها، بل هي نتيجة اتفاق اجتماعي بين البشر، وقد عبر الفيلسوف السويسري فرديناند دي سوسير عن هذا الرأي في كتابه (محاضرات في علم اللغة العام)، حيث قال: "إن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة اعتباطية بالكامل"، بالنسبة لسوسير، اللغة ليست انعكاسًا للطبيعة، بل هي نظام من العلامات يعتمد على الاتفاق الاجتماعي ، ومن الأمثلة التي تدعم هذا الرأي، نجد أن الكلمات التي تشير إلى نفس الشيء تختلف من لغة إلى أخرى، فعلى سبيل المثال، كلمة (كتاب) في اللغة العربية تُقابلها كلمة (book) في اللغة الإنجليزية، وكلمة (livre) في اللغة الفرنسية، و هذا التنوع اللغوي يُظهر أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست ضرورية، بل تعتمد على الثقافة والاتفاق الاجتماعي ، علاوة على ذلك، يرى أنصار هذا الموقف أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الواقع، بل هي أداة لتشكيله، فاللغة تُحدد الطريقة التي نفهم بها العالم ونفسرها، وبالتالي فإن العلاقة بين الدال والمدلول ليست ثابتة أو ضرورية، بل هي مرنة وقابلة للتغيير، و هذا الرأي يعكس الاعتقاد بأن اللغة ليست مجرد انعكاس للطبيعة، بل هي نتاج للثقافة والتاريخ ، و من بين الفلاسفة الذين تبنوا هذا الرأي أيضًا، نجد الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، الذي أكد أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست ثابتة، بل هي علاقة ديناميكية تتغير باستمرار، حيث قال: "إن المعنى ليس ثابتًا، بل هو نتيجة لعبة لا نهائية بين الدوال"،و هذا الرأي يعكس الاعتقاد بأن العلاقة بين الدال والمدلول ليست ضرورية ، بل هي نتيجة للتفاعل الاجتماعي والثقافي.

   • النقد :

على الرغم من قوة الحجج التي يقدمها أنصار هذا الموقف، إلا أنه يواجه العديد من الانتقادات، أولاً، يُعتبر القول بأن العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية بالكامل تعميمًا قد لا ينطبق على جميع الحالات، فهناك العديد من الكلمات التي تحمل دلالات صوتية تعكس طبيعة الأشياء التي تشير إليها، ثانيًا، و هذا الموقف يُغفل الدور الكبير الذي تلعبه الطبيعة في تشكيل اللغة، فاللغة ليست مجرد اتفاق اجتماعي، بل هي أيضًا انعكاس للطبيعة البشرية وعلاقتها بالعالم، وبالتالي فإن القول بأن العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية بالكامل يُعتبر تبسيطًا مفرطًا لطبيعة اللغة وتعقيداتها ، و أخيرًا، يُعتبر هذا الموقف غير قادر على تفسير الاستقرار النسبي للغة عبر الزمن، فإذا كانت العلاقة بين الدال والمدلول اعتباطية بالكامل، فلماذا تبقى الكلمات والمعاني ثابتة نسبيًا عبر الأجيال؟ 

• التركيب :

بعد استعراض الموقفين ونقدهما، يمكن القول إن العلاقة بين الدال والمدلول ليست ضرورية بالكامل، وليست اعتباطية بالكامل، بل هي مزيج من الاثنين، فمن جهة، هناك بعض الكلمات التي تحمل دلالات طبيعية تعكس طبيعة الأشياء التي تشير إليها، مما يُظهر وجود علاقة ضرورية بين الدال والمدلول، ومن جهة أخرى، هناك العديد من الكلمات التي تعتمد على الاتفاق الاجتماعي والثقافي، مما يُظهر وجود علاقة اعتباطية بين الدال والمدلول ، و هذا التوازن بين الضرورة و الاعتباطية يعكس الطبيعة المعقدة للغة، فهي ليست مجرد انعكاس للطبيعة، وليست مجرد نتاج للثقافة، بل هي تفاعل ديناميكي بين الاثنين، وبالتالي فإن العلاقة بين الدال والمدلول ليست ثابتة أو مطلقة، بل هي علاقة مرنة تتغير باستمرار وفقًا للسياق الاجتماعي والثقافي.

• حل المشكلة :

في الختام، يمكن القول إن الجدل حول العلاقة بين الدال والمدلول يعكس التعقيد الكبير الذي يميز اللغة كظاهرة إنسانية، فهي ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي وسيلة لفهم العالم وتشكيله، وبينما يرى البعض أن العلاقة بين الدال والمدلول ضرورية، ويرى البعض الآخر أنها اعتباطية، فإن الحقيقة تكمن في مكان ما بين الاثنين، فاللغة هي نتاج للتفاعل بين الطبيعة والثقافة، وبين الضرورة والاعتباطية، وبين الثبات والتغير، وهذا ما يجعلها واحدة من أعظم إبداعات الإنسان.

إعلان

أحدث أقدم

نموذج الاتصال