• مقال علم النفس :
_ هل يمكن دراسة الحادثة النفسية دراسة علمية موضوعية؟
_ هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الحادثة النفسية ؟
_ هل يمكن للحادثة النفسية ان تكون موضوعا للدراسة العلمية ؟
![]() |
• طرح المشكلة :
إن العقل البشري، بما يحمله من تعقيد وتشابك، لطالما كان موضوعًا مثيرًا للتأمل والتساؤل، و إذ تمثل الحادثة النفسية أحد أبرز مظاهر هذا العقل، فهي تعكس تفاعلات الإنسان مع ذاته ومع العالم الخارجي، مما يجعلها محورًا للدراسة الفلسفية والعلمية على حد سواء ، و يتعارض فيها موقفان رئيسيان، أولهما يرى أن الحادثة النفسية يمكن إخضاعها لمنهج علمي صارم، كما هو الحال مع الظواهر الطبيعية، وثانيهما يرفض ذلك، معتبرًا أن الحادثة النفسية ذات طبيعة ذاتية وفريدة تجعلها عصية على الدراسة العلمية الموضوعية ، و بين هذين الموقفين المتعارضين، تبرز تساؤلات فلسفية عميقة تتعلق بطبيعة الإنسان نفسه، وحدود العلم، وإمكاناته في فهم ما هو ذاتي وغير ملموس ، هل يمكن للعلم، بمنهجه التجريبي والموضوعي، أن يقتحم عوالم النفس البشرية المعقدة؟ ، أم أن هذه العوالم تظل محصورة في نطاق التجربة الذاتية والشعور الداخلي، مما يجعلها بعيدة عن متناول المنهج العلمي؟ ، او بعبارة أخرى ، هل يمكن دراسة الحادثة النفسية دراسة علمية موضوعية؟
• محاولة حل المشكلة :
• الموقف الأول :
يرى أنصار هذا الموقف أن الحادثة النفسية، على الرغم من طبيعتها المعقدة، يمكن دراستها دراسة علمية موضوعية، وذلك عبر تطبيق المنهج العلمي الذي يقوم على الملاحظة، و الفرضية ،والتجريب، والتحليل، والاستنتاج ، ووفقًا لهذا الرأي، فإن الحادثة النفسية ليست سوى ظاهرة من ظواهر الطبيعة، وبالتالي فهي تخضع لنفس القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية الأخرى ، و يمكن تفسير هذا الموقف من خلال عدة حجج وأمثلة وأقوال فلسفية ، حيث يعتبر هذا الموقف أن الحادثة النفسية ليست سوى امتداد للظواهر البيولوجية التي تحدث في الدماغ والجهاز العصبي ، فكما يمكن دراسة العمليات الفيزيولوجية والكيميائية التي تحدث في الجسم، يمكن أيضًا دراسة العمليات النفسية التي تنشأ عنها ، فعلى سبيل المثال، يمكن تفسير مشاعر الخوف أو السعادة من خلال دراسة نشاط الدماغ ومستويات الهرمونات في الجسم ، يقول الفيلسوف وعالم النفس ويليام جيمس: "إن كل شعور أو انفعال نفسي هو نتيجة مباشرة لتغيرات فيزيولوجية تحدث في الجسم"، مما يعني أن الحادثة النفسية ليست سوى انعكاس لحالة الجسم ،و يرى أنصار هذا الموقف أن علم النفس الحديث قد أثبت إمكانية دراسة الحادثة النفسية بشكل علمي وموضوعي، وذلك من خلال تطوير مناهج علمية دقيقة تعتمد على الملاحظة والتجريب ، فعلى سبيل المثال، في مجال علم النفس السلوكي، قام علماء مثل جون واطسون و بورهوس سكينر بدراسة السلوك الإنساني والحيواني من خلال التجارب المخبرية، حيث تم تحليل تأثير المحفزات الخارجية على السلوك ، يقول واطسون: "إن علم النفس هو علم السلوك، ويمكن دراسته بنفس الطريقة التي ندرس بها الكيمياء أو الفيزياء"، مما يعزز فكرة إمكانية دراسة الحادثة النفسية علميًا ، و من الأدوات التي تدعم هذا الموقف هو استخدام القياس النفسي، الذي يهدف إلى قياس الظواهر النفسية بشكل كمي وموضوعي ، فعلى سبيل المثال، يمكن قياس مستوى الذكاء من خلال اختبارات الذكاء، كما يمكن قياس مستوى القلق أو الاكتئاب من خلال استبيانات محددة ، و يقول عالم النفس ألفريد بينيه ، مبتكر اختبارات الذكاء : "الذكاء ليس سوى ظاهرة يمكن قياسها وتصنيفها"، مما يدل على إمكانية دراسة الحادثة النفسية بشكل علمي ،و يؤمن هذا الموقف بمبدأ الحتمية، الذي يفترض أن كل ظاهرة، بما في ذلك الحادثة النفسية، تخضع لقوانين سببية يمكن اكتشافها ودراستها ، ووفقًا لهذا المبدأ، فإن السلوك الإنساني ليس عشوائيًا أو غير قابل للتفسير، بل هو نتيجة لعوامل بيولوجية وبيئية يمكن دراستها وفهمها ، يقول الفيلسوف أوغست كونت ، مؤسس علم الاجتماع: "إن الظواهر الإنسانية تخضع لنفس القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية"، مما يعني أن الحادثة النفسية ليست استثناءً ، ففي مجال الطب النفسي، يتم استخدام الأدوية لعلاج الاضطرابات النفسية، مثل الاكتئاب والقلق، بناءً على فهم علمي للآليات البيولوجية التي تسبب هذه الاضطرابات ، و في مجال علم النفس العصبي، يتم دراسة تأثير إصابات الدماغ على السلوك والشخصية، مما يثبت وجود علاقة سببية بين العمليات البيولوجية والحوادث النفسية ، و في مجال علم النفس التجريبي، يتم استخدام التجارب المخبرية لدراسة تأثير العوامل البيئية على السلوك، مثل تأثير الضوضاء على التركيز.
• النقد :
على الرغم من قوة الحجج التي يقدمها أنصار هذا الموقف، إلا أنه لا يخلو من النقد، حيث يواجه عدة تحديات تجعل من الصعب قبول فكرة إمكانية دراسة الحادثة النفسية دراسة علمية موضوعية بشكل مطلق ، حيث تتميز الحادثة النفسية بأنها ذاتية وفريدة لكل فرد، مما يجعل من الصعب دراستها بشكل موضوعي ، فالشعور بالسعادة أو الحزن، على سبيل المثال، يختلف من شخص لآخر، ولا يمكن قياسه أو ملاحظته بشكل مباشر ، يقول الفيلسوف إدموند هوسرل ، مؤسس الفينومينولوجيا: "إن التجربة الذاتية هي جوهر الوعي الإنساني، ولا يمكن اختزالها إلى مجرد ظاهرة موضوعية"، مما يعني أن الحادثة النفسية لا يمكن فهمها بالكامل من خلال المنهج العلمي ، و على الرغم من أن القياس النفسي يوفر أدوات لقياس الظواهر النفسية، إلا أنه يواجه تحديات كبيرة، حيث أن هذه القياسات غالبًا ما تكون غير دقيقة وتعتمد على التفسيرات الذاتية للأفراد ، فعلى سبيل المثال، قد تختلف استجابات الأفراد لنفس الاختبار النفسي بناءً على حالتهم المزاجية أو ظروفهم الشخصية ، و تتأثر الحادثة النفسية بعوامل متعددة ومعقدة، تشمل العوامل البيولوجية والاجتماعية والثقافية، مما يجعل من الصعب دراستها بشكل علمي وموضوعي ، فعلى سبيل المثال، قد يكون الاكتئاب نتيجة لعوامل بيولوجية، مثل نقص السيروتونين، أو عوامل اجتماعية، مثل فقدان العمل، أو عوامل ثقافية، مثل التوقعات المجتمعية ، و يُنتقَد هذا الموقف أيضًا لأنه يميل إلى اختزال الإنسان إلى كائن مادي، متجاهلًا الجوانب الروحية والذاتية للإنسان ، يقول الفيلسوف مارتن هايدغر: "إن الإنسان ليس مجرد كائن بيولوجي، بل هو كائن يمتلك وعيًا ووجودًا فريدًا"، مما يعني أن الحادثة النفسية لا يمكن فهمها بالكامل من خلال المنهج العلمي ، و حتى في الدراسات العلمية، لا يمكن تحقيق الموضوعية المطلقة، حيث أن الباحث نفسه قد يكون متأثرًا بآرائه الشخصية أو بظروفه الثقافية والاجتماعية ، و هذا يجعل من الصعب دراسة الحادثة النفسية بشكل موضوعي تمامًا.
• الموقف الثاني :
على النقيض من الموقف الأول، يرى أنصار هذا الرأي أن الحادثة النفسية لا يمكن دراستها دراسة علمية موضوعية، وذلك بسبب طبيعتها الذاتية والفريدة التي تجعلها عصية على القياس والتجريب ، و وفقًا لهذا الموقف، فإن الحادثة النفسية لا يمكن فهمها أو تفسيرها من خلال المناهج العلمية التي تعتمد على الموضوعية والتجريب، لأنها تتعلق بتجارب داخلية وشخصية لا يمكن ملاحظتها أو قياسها بشكل مباشر ، و يدعم هذا الموقف حججه بمجموعة من الأفكار الفلسفية والأمثلة والأقوال ،حيث يرى أنصار هذا الموقف أن الحادثة النفسية هي تجربة ذاتية وفردية لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال الشخص الذي يعيشها ، فالشعور بالسعادة أو الحزن، على سبيل المثال، هو تجربة داخلية لا يمكن ملاحظتها أو قياسها من الخارج ، يقول الفيلسوف إدموند هوسرل : "إن الوعي هو تجربة ذاتية بحتة، ولا يمكن فهمه إلا من خلال الفينومينولوجيا التي تهدف إلى وصف التجربة كما تُعاش من الداخل"، مما يعني أن الحادثة النفسية لا يمكن دراستها بشكل علمي موضوعي ، و تتميز الحادثة النفسية بتعقيدها الشديد، حيث تتداخل فيها عوامل بيولوجية واجتماعية وثقافية وروحية، مما يجعل من الصعب إخضاعها للدراسة العلمية ، فعلى سبيل المثال، الشعور بالخوف قد يكون ناتجًا عن عوامل بيولوجية ، مثل زيادة الأدرينالين، أو عوامل اجتماعية، مثل التعرض لتهديد خارجي، أو عوامل ثقافية، مثل المعتقدات المرتبطة بالخطر ، و هذا التعقيد يجعل من الصعب عزل الحادثة النفسية ودراستها بشكل موضوعي ، و يرى أنصار هذا الموقف أن الحادثة النفسية لا يمكن إخضاعها للتجريب بنفس الطريقة التي تُدرس بها الظواهر الطبيعية، لأن التجريب يتطلب القدرة على التحكم في المتغيرات وملاحظتها بشكل مباشر ، ففي حالة الحادثة النفسية، لا يمكن ملاحظة التجربة الداخلية للشخص بشكل مباشر، مما يجعل من المستحيل تطبيق المنهج التجريبي عليها ، يقول الفيلسوف كارل ياسبرز : "إن الحادثة النفسية هي تجربة وجودية لا يمكن فهمها إلا من خلال التأمل الذاتي"، مما يعزز فكرة استحالة دراستها علميًا ، و حتى إذا حاول الباحث دراسة الحادثة النفسية، فإن ذاتيته الشخصية قد تؤثر على نتائج البحث ، فالباحث نفسه هو إنسان يمتلك مشاعر وأفكارًا قد تؤثر على تفسيره للظاهرة النفسية ، فعلى سبيل المثال، قد يفسر الباحث سلوكًا معينًا بناءً على تجاربه الشخصية، مما يؤدي إلى نتائج غير موضوعية ، يقول الفيلسوف بول ريكور : "إن فهم الإنسان يتطلب تأويلًا، والتأويل دائمًا مشروط بوجهة نظر المفسر"، مما يعني أن الدراسة العلمية للحادثة النفسية لا يمكن أن تكون موضوعية تمامًا ، و يرى هذا الموقف أن الحادثة النفسية لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق الثقافي والاجتماعي الذي تحدث فيه ، فالشعور بالسعادة، على سبيل المثال، قد يختلف تعريفه وتجربته من ثقافة إلى أخرى، مما يجعل من الصعب وضع تعريف علمي موضوعي له ، يقول الفيلسوف كليفورد غيرتز : "إن الإنسان هو كائن محاط بشبكة من المعاني التي يصنعها بنفسه، ولا يمكن فهمه إلا من خلال هذه الشبكة"، مما يعني أن الحادثة النفسية لا يمكن دراستها بشكل مستقل عن السياق الثقافي ، ففي مجال العلاج النفسي، يعتمد المعالجون غالبًا على الحوار والتأمل لفهم تجارب المرضى، مما يدل على أن الحادثة النفسية لا يمكن ملاحظتها أو قياسها بشكل مباشر ، و في مجال الفلسفة، يتم تحليل الحادثة النفسية من خلال التأمل الذاتي والوصف الفينومينولوجي، مما يعكس طبيعتها الذاتية والفريدة ، و في الأدب، يتم التعبير عن الحوادث النفسية من خلال الرموز والاستعارات، مما يشير إلى صعوبة وصفها أو قياسها بشكل علمي.
• النقد :
على الرغم من الحجج القوية التي يقدمها أنصار هذا الموقف، إلا أنه يواجه أيضًا مجموعة من الانتقادات التي تضعف من صلابته وتثير تساؤلات حول مدى دقته ، إذ يركز هذا الموقف بشكل كبير على الطبيعة الذاتية للحادثة النفسية، لكنه يتجاهل الجانب البيولوجي الذي يلعب دورًا مهمًا في تشكيل هذه الحوادث ، فالعلم الحديث أثبت أن العمليات النفسية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعمليات البيولوجية، مثل نشاط الدماغ ومستويات الهرمونات ، فعلى سبيل المثال، يمكن تفسير الاكتئاب من خلال نقص السيروتونين في الدماغ، مما يدل على أن الحادثة النفسية ليست ذاتية بالكامل ، و على الرغم من أن الحادثة النفسية لا يمكن قياسها بشكل مباشر، إلا أنه يمكن قياسها بشكل غير مباشر من خلال دراسة السلوك أو التغيرات الفيزيولوجية ، فعلى سبيل المثال، يمكن قياس مستوى القلق من خلال مراقبة معدل ضربات القلب أو استجابات الجلد الكهربائية، مما يدل على أن الحادثة النفسية ليست عصية تمامًا على الدراسة العلمية ، و يتجاهل هذا الموقف التقدم الكبير الذي حققه العلم في دراسة الحوادث النفسية ، فمجالات مثل علم النفس العصبي وعلم النفس التجريبي وعلم النفس السلوكي قد أثبتت إمكانية دراسة الحادثة النفسية بشكل علمي ،فعلى سبيل المثال، تمكن العلماء من دراسة تأثير العوامل البيئية على السلوك من خلال التجارب المخبرية ، و يركز هذا الموقف بشكل كبير على التأمل الذاتي كوسيلة لفهم الحادثة النفسية، لكنه يتجاهل أن التأمل الذاتي قد يكون غير دقيق أو متحيز ، فالشخص الذي يعاني من اضطراب نفسي قد لا يكون قادرًا على وصف تجربته بدقة، مما يجعل من الصعب الاعتماد على التأمل الذاتي كوسيلة وحيدة لفهم الحادثة النفسية ، و يرى بعض النقاد أن هذا الموقف يبالغ في الفصل بين الذاتية والموضوعية، لكنه يتجاهل إمكانية الجمع بينهما ، فالدراسة العلمية للحادثة النفسية يمكن أن تجمع بين التحليل الذاتي والقياس الموضوعي، مما يتيح فهمًا أكثر شمولية للحادثة النفسية.
• التركيب :
بعد استعراض الموقفين المتعارضين ونقدهما، يمكن القول إن العلاقة بين الحادثة النفسية والدراسة العلمية ليست علاقة تناقض أو تضاد، بل هي علاقة تكامل وتفاعل ، فالحادثة النفسية، على الرغم من طبيعتها الذاتية والفريدة، يمكن دراستها بشكل علمي من خلال الجمع بين المناهج الموضوعية والتحليل الذاتي ، و هذا يعني أن الدراسة العلمية للحادثة النفسية لا تتطلب إلغاء الذاتية، بل تتطلب فهمها وتفسيرها في سياق علم ، ، إذ تتميز الحادثة النفسية بأنها ظاهرة متعددة الأبعاد، حيث تتداخل فيها العوامل البيولوجية والاجتماعية والثقافية والروحية ، لذلك، فإن دراستها تتطلب استخدام مناهج متعددة تجمع بين التحليل العلمي والتأمل الفلسفي ، و يمكن تحقيق التوازن بين الذاتية والموضوعية من خلال استخدام مناهج تجمع بين القياس الكمي والتحليل النوعي ، و نرى من خلال التركيب أن الحادثة النفسية لا يمكن فهمها بمعزل عن السياق الذي تحدث فيه ، لذلك، فإن دراستها تتطلب مراعاة العوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤثر عليها.
• حل المشكلة :
في الختام، يمكن القول إن دراسة الحادثة النفسية تمثل تحديًا فلسفيًا وعلميًا كبيرًا، حيث تجمع بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي ، فعلى الرغم من التعارض بين الموقفين، إلا أن التوفيق بينهما يتيح فهمًا أكثر شمولية للحادثة النفسية ، فالعلم، بمنهجه التجريبي، يمكن أن يدرس الجوانب الموضوعية للحادثة النفسية، بينما يمكن للفلسفة أن تسلط الضوء على الجوانب الذاتية والفريدة ، و بهذا الشكل، يمكن تحقيق فهم أعمق وأشمل للحادثة النفسية، مما يعزز من قدرتنا على فهم الإنسان نفسه.